بقايا خيال: أغلب المتقاعدين عاجزون عن العطاء كالسابق!
بعد سنة من تقاعدي من العمل المصرفي قمت بزيارة لمقر عملي في البنك للاطمئنان على زملاء المهنة، فإذا بي أفاجأ بتعديلات على الهيكل التنظيمي للإدارة التي كنت أعمل فيها، ودخول موظفين جدد، وبتحديثات أجريت على وظائف كان يقوم بها مسؤول الائتمان في السابق فصارت مبرمجة على الكمبيوتر، فما على الموظف إلا أن يدخل البيانات الرقمية الخاصة بالعميل على الكمبيوتر لتخرج النتائج حلولاً منطقية لما يجب أن يتخذه مسؤول الائتمان من قرارات بالموافقة على طلبات العميل أو الرفض. هذه التغييرات ساهمت في تقليل الساعات المكتبية للموظف، لدفعه نحو الإكثار من زيارات لعملاء جدد واستقطاب استثماراتهم، بالإضافة إلى ترسيخ العلاقة مع العملاء القدامى، كما نمى إلى علمي أن هذه التحديثات الجذرية التي حدثت خلال شهور قليلة استوجبت تدريب الموظفين لمواكبة هذه التطورات، وبناء عليه صار من الصعب على أي متقاعد أن يعود لعمله المصرفي السابق لحاجته إلى التدريب، بالإضافة إلى وجود طابور من خريجين شباب قادرين على العطاء أكثر من غيرهم وينتظرون دورهم في التوظيف.
قبل أيام تطرق أحد الكتّاب إلى موضوع المتقاعدين ناصحاً وزارة التربية الاستعانة بخبرات المعلمين المتقاعدين المعروفين كقادة في التعليم والقادرين على النهوض بالتعليم، مشترطاً على الوزارة أن يسمح لهذا المدرس المتقاعد بالعودة إلى سلك التدريس دون التزامات إدارية، بمعنى أن يلتزم بعدد الحصص الموكلة إليه، فيلقي الدرس ثم يذهب إلى منزله، دون الإشارة إلى أهمية عملية مراجعة دفاتر الطلبة ووضع أسئلة الامتحانات وتصحيحها والالتقاء بطلبته الذين يحتاجون إلى تقوية، والمشاركة باجتماعات المدرسين للاطلاع على كل جديد من قرارات إدارية ومهنية أو تعديلات على المناهج وطرق التدريس وغيرها من الأسباب التي تتطلب من هذا المدرس المشاركة في كل اجتماع مفيد لطلبته، متناسياً أننا اليوم نعيش عصر الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي الذي صار أذكى من الإنسان نفسه الذي اخترعه، خصوصاً أن غالبية طلاب اليوم يفهمون بعلوم التكنولوجيا أكثر من غالبية مدرسيهم، فما بالك بالمدرس المتقاعد العائد للتدريس بعد انقطاع دام سنوات قضاها إما بالنوم أو التنقل بين الدواوين دون تطوير لقدراته الذاتية.
ولو كانت وزارة التربية بحاجة ماسة إلى مدرسين متقاعدين لقدرتهم على سد نقص جوهري في مواد علمية مهمة كتلك التي تجد الوزارة ضالتها في مدرسين وافدين، لما تأخرت «التربية» لحظة في رفض طلبات تقاعدهم في حينه، ولأقنعت بعضهم بزيادة علاواتهم من أجل الإبقاء عليهم في حضن الوزارة، بل لو كانوا محبين لمهنة التدريس إلى هذه الدرجة، لماذا أصروا على التقاعد قبل سنوات طرأت خلالها تغييرات كثيرة على أساليب التدريس وطرقها ومناهجها، ناهيك عن التكنولوجيا التي أدخلت على المدارس بطريقة يصعب على المتقاعدين مواكبتها، كما أن عموم وزارات الدولة لا توافق على تقاعد أي موظف إلا لأن هناك طابورا من الخريجين الشباب ينتظرون دورهم في التوظيف قادرين على مواكبة التطورات التكنولوجية التي تشهدها حياتنا اليومية.
ولكي نكون منصفين فإن جزءاً مهماً من مشكلة التخصصات الضرورية التي تحتاج إليها وزارة التربية سببها الوزارة نفسها، التي لا تضع خطة مستقبلية لحاجتها من التخصصات التدريسية المطلوبة مثل اللغة الإنكليزية، واللغة الفرنسية، والرياضيات، والعلوم، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والجيولوجيا، والفلسفة، والحاسب الآلي، والديكور، والكهرباء، وكان يجب على وزارة التعليم العالي أن تضع شروطاً قاسية على الراغبين في التخصص بمجالات نظرية فاضت بها مؤسسات الدولة، مثل تخصص التربية البدنية والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس والتربية الإسلامية، مع كامل احترامنا وتقديرنا لكل المتقاعدين والمتقاعدات.