«تكشيخ» اللغة
لو تصح مقولة إن الأمة المغلوبة ستتبع الغالبة في تقليد اللغة لما طبقناها على اليابان وألمانيا، حيث لم يهزم مثلهما في العصر، ولا تزال اللغتان اليابانية والألمانية لغتي العلم والعمل والحياة في هذين البلدين، كما أن طوفان عولمة اللغة الإنكليزية لم يُغْرِقْ شعبيهما، في حين العامة من شعوبنا العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج يستنكفون التحدث بلغة دينهم، ويزهدون فيها أيما زهد، بل يصل الأمر ببعضهم فيزدرونها ويجحدونها ويرونها لغة رديفة للرتابة والجمود، فلا تزيد مكانة متكلمها- حسب نظرهم- ولا ترفع حظه الوظيفي، ولا تعزز وضعه الاجتماعي، ولا تجلسه في صدر المجالس، ولا تمكنه من تَصَدُّرِ منصات الحديث، ولا من الشهرة، ولا تزيد رصيده المصرفي درهمًا ولا دينارًا.
ولم أجد شيئًا يرغّب الناس بلغة ما، بقدر ما يحدثه القدوات في وجدان العامة من تأثير بألسنتهم وتنميط لأفكارهم، وتوظيف لجهودهم، فمتى ما وجدنا قدوات يتبوءون أعلى المناصب ويتصدرون منصات الشهرة وهم يتقنون العربية وينطقونها بدون مفردات دخيلة (أي ليس لها جذر عربي)، ويكشفون عن ثروة لغوية أصيلة، بألفاظ سليمة وعبارات قويمة، دون تقَعُّر ولا مبالغة- متى ما وجدنا قدوات بهذه الصفات، فحتمًا سيتبعهم العامة لا سيما الجيل الناشئ، وهذا منهج علمي يرقّي «يكشّخ» اللغة، ويستخدم لتعويم اللغات المهملة، وبذلك نحفظ للأجيال ثاني أعظم نعمة، رزقناها دون جهد وعناء.
بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، عقدت رابطة أعضاء هيئة التدريس للكليات التطبيقية، فعالية بعنوان «العربية والعرب بين الجفاء والانتماء»، وقد أثار هذا العنوان ما أثاره من تحفُّظ بعض الغيورين، لما قد يثيره حسب ظنهم من نعرات قومية تذكّر العرب- دون غيرهم- بأهمية اللسان العربي، رغم استخدام بعض الأقوام لها كلغة أم كالبربر والكرد وغيرهما، ويحسن القول هنا: إن مفهوم العرب يعتريه شيء من التساؤل وتعدد الأقوال والظن، فلا يعرف على وجه اليقين أب جيني جامع لكل العرب بسلالة تخصهم، كما لا يجتمع جل العرب على دين واحد، بل يتبعون مذاهب فقهية متعددة، بيد أن العربية بكل لهجاتها هي لغتهم الأم وعلى وجه اليقين، وهذا أدعى لتعزيزها كأوثق رابطة بين شعوبها، إذا أردنا توظيفها في إطار الروابط المشتركة بين العرب.