ما قل ودل: بئساً لهوبز الذي نادى بالدولة القمعية... (الحالة السورية)
فرحتي وفرحة غيري وفرحة الشعوب العربية كافة بالنصر الذي حققته المعارضة السورية، في فصيل من فصائلها التي قامت بثورة الربيع العربي في سورية، هي فرحة بزوال طاغية، حكم بلده بالحديد والنار، وكتم أنفاس شعبه بالقتل والتعذيب في السجون والمعتقلات، وبالتنكيل والاضطهاد حتى نزح الملايين إلى خارج وطنهم، فخرج الشعب السوري كله عن بكرة أبيه في كل المدن السورية يهتف بالنصر الذي حققته جبهة تحرير الشام وقائدها أحمد الشرع، ولسورية أولا وأخيرا في القضاء على حكم الطاغية.
فلا تفسدوا علينا وعليهم هذه الفرحة بالحديث عن الدور الأميركي في تحقيق هذا النصر، ولسنا ننكر في هذا السياق على المحللين والكتّاب العرب حقهم في أن يستخلصوا هذا الدور، أو الدور التركي، ولا نصادر عليهم حريتهم في التعبير عن رأيهم بهذا التحليل، بل نشاركهم في أن هناك دورا أدته كل من أميركا وتركيا، وبالتنسيق بينهما في تحقيق هذا النصر.
دوافع أميركا وتركيا ومصالحهما
وأيا كانت دوافع أميركا وتركيا ومصالحهما المرتبطة بهذا الدور الذي لا ننكر حدوثه، وأنه كان العامل الأكبر في هذا النصر دون إنكاره أو التقليل منه، إلى حد القول إن تولي أحمد الشرع قيادة وإدارة الدولة بعد سقوط الطاغية لا ينبع عن إرادة الشعب واختياره، إلا إذا كان سائغا أن نقول بأن جحيم الطاغية بشار ولا جنة هيئة تحرير الشام، ولو كنا نختلف معها في الرؤية والتوجه، ولقد كانت تجربة الثورة الإسلامية أكبر برهان على فساد هذا القول، ولم يكن من الصحابة الذين شاركوا النبي (صلى الله عليه وسلم) في أعظم ثورة إسلامية إلهية في التاريخ، من كان من الكفار، بل إن الرسول، عليه الصلاة والسلام، دعا المولى عز وجل أن ينصر الإسلام بأحد العمرين، ولم تمض أيام حتى استجاب الله دعوته وطرق سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، باب الرسول ليعلن إسلامه، وليكون بعد ذلك أكثر حكام الإسلام عدلا وزهدا وتعففا، وليكون ترتيبه الـ 51 بين الخالدين المئة، وأعظمهم محمد، صلى الله عليه وسلم، في كتاب مايكل هارت (الخالدون مئة).
ولئن كانت إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة للولايات المتحدة الأميركية في الوطن العربي، كما اعترف بذلك وزير الاستراتيجية الإسرائيلي، وتناولناه في مقال سابق، إلا أن أميركا أيا كانت مصالحها ودوافعها هي التي قادت التحالف الدولي النبيل، لتحرير الكويت من طاغية آخر كان يحكم العراق بالحديد والنار.
الحضانة العربية بعد الأميركية والتركية
ولا ينال من هذا النصر أو من فرحتنا به أن تدريب المقاتلين السوريين كان يتم في القاعدة الجوية الأميركية في الأراضي السورية على حدود العراق، وأن عدد المقاتلين السوريين في هيئة تحرير الشام قد ارتفع في الأسابيع القليلة على هذا النصر من 800 مقاتل الى ثلاثة آلاف بفضل هذا التدريب، وقد كانت الطائرات الروسية تقصف معسكراتهم ليل نهار.
كما لا ينال من هذا النصر ما قدمته تركيا وستقدمه من مساعدات عسكرية وخدمات لوجستية ومساعدات إنسانية، وهو ما يوجبه عليها احتلالها لمساحات كبيرة من الأراضي في سورية، وليبقى هذا الاحتلال القاعدة الاميركية كمرحلة انتقالية باعتبارهما حاضنتين للثورة السورية، الى أن يتسع صدر الحضانة العربية للنظام السوري الجديد بعد التوافق بين الدول الإقليمية، على أن يكف بعضها عن تزويد الميليشيات بالسلاح والعتاد.
وقد بدأت الإمارات والسعودية وقطر بإرسال جسر جوي من هذه المساعدات الى دمشق، بعد الجسر الجوي للاتحاد الأوروبي الذي بدأ مبكرا.
ولا ينال من هذا النصر، أن اسرائيل اهتبلت الفرصة، لمزيد من التوسع الاستعماري الإقليمي في الأراضي السورية في الجولان وجبل الشيخ، ذلك أن حافظ الأسد لم يكن مع كل استبداده وطغيانه على شعبه يحرك ساكنا، هو وولده بشار للمطالبة حتى السلمية بردّ الجولان المحتل.
المشاركة لا المغالبة
إن ما يؤخذ على النظام الجديد الذي أصبح يثير القلق حتى لدى أميركا وتركيا، هو أن جميع الوزراء في وزارة البشير، من هيئة تحرير الشام، وربما يكون ذلك اعتمادا على الثقة لا الخبرة، إلا أن هناك خبراء في شتى المجالات ونشطاء وقادة سياسيين من السوريين في المهجر، وهم مستعدون للعودة الى البلاد، وقد عاد منهم البعض، ومنهم الصديق هيثم المالح الذي كان مكتبه الحقوقي في باريس المركز الرئيس لكثير من جمعيات حقوق الإنسان وجمعيات حقوقية أخرى لممارسة نشاطها في البلاد العربية، بسبب المناخ الخانق للحريات في بلادنا من ناحية، وبسبب أن بعضها لا يسمح بتأسيس جمعيات أو منظمات إلا خالصة لمواطنيها، فقد منع الأخ هيثم من إلقاء خطاب في المسجد الأموي في دمشق وهو رجل يناهز عمره التسعين.
لا لانفلات البعض
ولا أكتم خشيتي من أن تعم الفوضى في البلاد، بسبب فكر المغالبة لدى البعض من المنتمين لهيئة تحرير الشام، كما حدث لمقام الشيخ أبو عبدالله الحسين بن حمدان الخصيبي من اقتحام لبعض المنقلبين، وهو أهم المزارات للطائفة العلوية، ومن اغتيال ثلاثة قضاة واقتحام كنائس ومقابر مسيحية، وتحطيم أيقونات فيها، وإطلاق الرصاص على التظاهرة المسيحية التي كانت ترفع العلم الجديد لسورية، بما يعد تكاتفا مع النظام الجديد، وقد خرجت تطالب بوقف هذه الانتهاكات، وأن تكون المواطنة أساس الدولة الجديدة، وإن موجات من الغضب تجتاح بعض مدن الساحل وريف حمص، ومن غير المعقول أن يتم كل ذلك تحت العباءة المتعارف عليها من الأنظمة القمعية بأنها حوادث فردية.
حلم سورية بالحرية
إن سورية التي غابت أكثر من نصف قرن على يد السفاح حافظ الأسد ونجله بشار، تحلم بأن تشع الديموقراطية في بلادها، ولعل انفصال سورية عن مصر 1961 يكون درسا وعبرة وعظة للنظام الجديد، الذي خرجت الجماهير السورية تهتف لنصره مثلما خرجت الجماهير السورية بعد الوحدة بين سورية ومصر في سنة 1958، في مظاهرات حاشدة تغني للوحدة، من الموسكي لسوق الحميدية، ووحدة ما يغلبها غلاب، وعشرات من الأغاني السورية والمصرية.
فالشعب السوري الذي حفلت حياته السياسية بالثورات منذ سنة 1921 والانقلابات العسكرية كذلك لم يحتمل حل الأحزاب السياسية بعد هذه الوحدة، والذي طلبته مصر وقبله حزب البعث السوري لإنقاذ سورية من الوقوع في مخالب الشيوعيين، ولم يتحمل الشعب السوري حكم عبدالحميد السراج الذي ولّاه الرئيس جمال عبدالناصر على سورية، ضابطا في الجيش السوري، ثم انقلب حزب البعث على الوحدة ليحكم سورية بعد بضع سنوات حافظ الأسد سنة 1971، وهو أحد القيادات العسكرية لحزب البعث في الجيش السوري، ليخلفه بعد ذلك بشار الأسد.
إن ما يطالب به الشعب السوري الآن هو وضع خطة طريق واستراتيجية توافق عليها كل القوى السياسية في سورية، تجنبا لوقوع هذه الثورة في مخالب الدولة القمعية.
وبئسا للمفكر الإنكليزي هوبز الذي نادى بالدولة القمعية لمناهضة الثورة التي تؤدي الى الفوضى، فكان حكم كرومويل في بريطانيا.