وجهة نظر: حدود عمل السياسات الاقتصادية

نشر في 13-12-2024
آخر تحديث 12-12-2024 | 18:54
 د. أحمد الكواز

بدأ الكثير من الاقتصاديين بإلقاء العديد من الشكوك حول مدى الاعتماد المطلق على السياسات الاقتصادية كأداة رئيسية لتحقيق الأهداف الاقتصادية، وعلى رأسها رفع معدل النمو وخفض معدل البطالة، وخفض معدل التضخم. ويسري هذا الاستنتاج على حالة البلدان النامية بشكل خاص.

ولعلّ من أهم الدراسات الموسّعة حول محدودية أثر السياسات على النمو هي دراسة (Easterly، National Policies and Economic Growth، A Reappraisal، New York University، 2003)، والتي شملت أدوات السياسات الاقتصادية وتأثيرها المحتمل على النمو: معدل التضخم، رصيد الموازنة العامة للدولة، وعرض النقود، والمغالاة بسعر الصرف، ودرجة الانفتاح، ومن خلال سلسلة زمنية.

وقد اكتسبت السياسات الاقتصادية، حديثاً، أهمية خاصة عندما تبنت مؤسسات التمويل الدولية مقولة أن اتباع سياسات اقتصادية سليمة من شأنه أن يسهم وبشكل كبير في إصلاح اقتصاديات البلدان النامية ويحسن توزيع الدخل لاحقا.

وبالتالي، تحقيق الاستقرار الاقتصادي، والتغيرات الهيكلية المطلوبة، والقدرة على تسديد المديونية، وغيرها من مؤشرات الأداء الاقتصادي الجيد. وقد شهد عقد الثمانينيات من القرن الماضي بداية العمل بأغلب هذه السياسات (وللإنصاف، فإن هذه المؤسسات بدأت، حديثا، بإعادة تقييم منطلقاتها الفكرية لمصلحة دور المؤسسات، انظر مثلا: IMF، Macroeconomic Policies and Poverty Reduction، WP/1/135,2001).

ورغم إشارة بعض الدراسات الى العلاقة الطردية بين التحرر الاقتصادي وتحسّن معدل النمو

(انظرمثلا: World Bank، Redistribution with Growth، Oxford University Press، 1979)، فإن هناك العديد من الدراسات التي لا تتفق مع هذه العلاقة (انظر مثلا: Aslund، Boone and Johnson، How to Stabilize، Brooking Papers، 1996). الأمر الذي يؤكد أن مشاكل البلدان النامية، ومنها العربية، هي مشاكل قد لا تحل بالتركيز على السياسات، رغم أهميتها إذا توافرت الشروط المسبقة اللازمة لعمل هذه السياسات، والتي تقع، جوهريا، في خانة الشروط المؤسسية والإدارية. إن هذا النوع من الشروط المسبقة عمل، ويعمل على تحييد وعرقلة عمل السياسات الاقتصادية لتحقيق أهداف النمو الحقيقي الشامل وعدالة التوزيع.

السياسة النقدية لا تعمل لمحاربة التضخم إذا كانت مؤسسة البنك المركزية تتسم بالتأثير المتواضع على العرض النقدي. ومؤسسة وزارة المالية، وسياستها المالية، لا تعمل بشكل كفوء إذا كان هناك من يعمل على تقييدها من قبل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، ومؤسسة وزارة الصناعة، وسياستها الصناعية، لا تستطيع فرض التنويع الصناعي إذا تضاربت مع مؤسسات تجارية لا تؤمن بالتصنيع أو تحاول الحدّ منه، والأمثلة كثيرة والمستمدة من الواقع الاقتصادي. لماذا هذا التحييد لعمل السياسات الاقتصادية؟

الإجابة تقودنا الى الإسهام الكبير لأحد اقتصاديي معهد ماسوسيشتس للتكنولوجيا MIT (وقبله آخرون) الاقتصادي التركي الأصل دارون أسيميجلوا D. Acemoglu، الحائز جائزة نوبل بالاقتصاد لهذا العام، في كتابه مع مؤلف آخر، روبنسون J. Robinson: لماذا تفشل الأمم Why Nations Fail. بعد دراسة الكتاب للتاريخ الاقتصادي للعديد من الدول، كانت الاستنتاجات عديدة لمصلحة دور المؤسسات، منها: أولا أن منطقة نوجلز المقسمة تاريخيا بين الولايات المتحدة (أريزونا) والمكسيك (سونورا)، لا تختلف حضاريا ولا جغرافيا، إلّا ان الجزء الأميركي متطور، والمكسيكي عكس ذلك، بفعل نوعية المؤسسات.

ثانيا، أن نمو النوعية التنافسية للمؤسسات لا بُد أن يتسق مع النمو الاقتصادي الشامل، وإلا تستمر الحلقة المفرغة لتواضع النمو الشامل. ثالثا: انفتاح الاقتصاد، والمجتمع، ورغبته بالهدم البنّاء للمؤسسات الموقعة للنمو، وتدعيم دور القانون، هي عوامل حاسمة للهروب من خصائص البلد الأقل نموا، والنامي. رابعا: أن من يحسم نمو بلد معيّن ليس الجغرافيا، أو الإرث الحضاري، بل المؤسسات الراقية التي هي نتاج عمل البشر المتسمين بالثقافة المتعددة الأبعاد.

ختاما، فإن خلق المؤسسات، وما تعتمد عليه من إداريين أكفاء، ليس بالأمر اليسير ولا السهل، ولا يأتي بالتمنّي والنوايا الحسنة، بل هو نتيجة للعديد من العوامل المتعددة التخصصات، ومن أهمها الانفتاح بالتفكير، وعدم سيطرة القناعات المسبقة، والقناعة بأهمية المؤسسات الكفوءة، وضمان مخرجات نظام تعليمي يؤمن بدور المؤسسات في تحقيق النمو الشامل، وتحييد دور الممارسات الاحتكارية لمصلحة التنافسية لتناقضها مع عمل المؤسسات المطلوب، والعمل على خلق نظام قيم Value System يدعم دور المؤسسات وليس العكس.

وبعد توافر المؤسسات الملائمة، فإن بيئة عمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية ستشهد سلاسة أفضل في التنفيذ والتأثير المتوقع على أغلب المتغيرات الاقتصادية الحاكمة للنمو الشامل. وهذا لا يعني أن طريق التحول من بلد نامي الى آخر أكثر نموا وتقدما سيكون ورديا، بل يعني أن التحكم بالصدمات الاقتصادية الداخلية والخارجية سيكون على أسس أكثر كفاءة وحيادية لمصلحة الجميع، ويعزز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، والذي يعتبر بدوره أحد شروط استدامة التنمية.

back to top