سورية الجديدة... بين النظام البرلماني والرئاسي
في ظل حالة التدويل الراهنة للأزمة السورية يشكل وضع دستور جديد للبلاد أحد أهم الأولويات التي تواجه السوريين والمجتمع الدولي على حد سواء، ويتمثل التحدي الأكبر أمام واضعي الدستور الجديد باتفاقهم على شكل النظام السياسي الجديد، والمفاضلة بين النظام البرلماني والنظام الرئاسي، حيث يلاحظ المتتبع للشأن السوري أن هناك توجهاً طاغياً لدى الكثيرين بضرورة تبني النظام البرلماني، والابتعاد عن النظام الرئاسي الذي عزز بدرجات متفاوتة الميول التسلطية والدكتاتورية للرئاسات السورية خلال أكثر من سبعة عقود مضت في عمر الدولة السورية الحديثة منذ نيل الاستقلال عام 1946.
بلا شك يعدّ النظام البرلماني الأكثر ضمانة للممارسة الديموقراطية لكنه في الوقت نفسه لا يوفر ضمانة للاستقرار، فغالباً ما يتسبب بحالة من عدم الاستقرار السياسي، ويمنع انسيابية تشكيل الحكومات ويسمح للقوى الخارجية بالتدخل في شؤون الدولة، فالمتتبع لواقع دول العالم الثالث التي أخذت بالنظام البرلماني ومنها بعض الدول العربية نلاحظ أن ذلك أدى لتكريس حالة الاستقطاب الطائفي داخل المجتمع وأنعش مظاهر الفساد وأدواته، وأحدث أزمات في تشكيل الحكومات وانتخاب الرؤساء، حيث بدت تلك الدول خلال فترات زمنية تعاني أزمة شرعية، ونقصا في السيادة ومحدودية في ممارسة سلطاتها.
حيث أفرزت الممارسة السياسية في الدول العربية المجاورة لسورية والمشابهة لها في تنوعها الاثني والطائفي منظومة سياسية اعتادت على التخادم المصلحي البيني، والابتزاز السياسي الذي يكرس الفشل، ويتسبب في إدارة الأزمات الوطنية بعقلية المحاصصة والفساد، وجعل السلطات تتمركز بأيدي الزعامات الدينية أو السياسية أو القبلية بعيداً عن تركزها في البرلمان والمؤسسات الحكومية الشرعية، في ظل ضعف دستوري لمؤسسة الرئاسة.
ويشكل عدم توافر الوعي السياسي الكافي لدى عامة الناس وعدم وجود تجربة لدى الجيل السوري الحالي في الممارسة السياسية أو البرلمانية الحرة سبباً لعدم تمكينه من إنجاح الانتقال الى التجربة البرلمانية، وبالتالي فإن خيار النظام البرلماني لن يكون مناسباً للواقع السوري، خاصةً مع ترافقه بدعوات مصاحبة لاعتماد اللامركزية الإدارية التي تقارب في بعض طروحاتها حدود صيغة الفدرالية التي تهدد وحدة ومستقبل سورية.
وأمام الحاجة إلى دولة القانون والمؤسسات وقطع الطريق أمام تهيئة الظروف للمحاصصة الطائفية والانقسام الأفقي والعمودي في المجتمع، واستفادةً من تجارب الدول ومنها تركيا عام 2017، حيث وجدت أن الحاجة الوطنية تحتم الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي باعتباره الأنسب لحماية حقوق الأقليات وضمان مشاركتها في السلطة فضلاً عن توفير الاستقرار للحكومات، وفي الوقت نفسه تتيح للرئيس تنفيذ خططه التنموية وسياساته الوطنية بعيداً عن مماحكات النظام البرلماني وأساليبه التي تؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي في البلد.
وعلى الرغم من أن النظام الرئاسي يتميز بمبدأ أحادية السلطة التنفيذية ويلغي مبدأ المسؤولية السياسية، وقد يسمح بظهور الدكتاتورية والاستبداد فإن إيجابية الاستقرار السياسي مع توافر نظام للرقابة الدستورية سيمنح المزيد من الضمانات مع الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات.
وفي الواقع السوري فقد فشل النظام الرئاسي خلال ستة عقود نتيجة طغيان حكم الحزب الواحد والقائد الأوحد فضلاً عن تطييف القطاعات العسكرية والأمنية، والاعتماد على صيغ دستورية مشوهة ألغت التعددية السياسية وأطلقت للحزب الحاكم العنان في التفرد والتعسف بممارسة السلطة.
فالواقع يفرض وجود نظام رئاسي أو شبه رئاسي يعتمد على سلطة تنفيذية مزدوجة تتسم بالتوازن في الصلاحيات وتضمن انسيابية ومرونة في العمل وتوفر الاستقرار السياسي، مع ضرورة وجود ضمانات دستورية لعدم تغول هذه السلطة مستقبلاً واستبدادها في الحكم.
ونرى فيما يلي مجموعة من الاشتراطات الدستورية الواجب توافرها كصيغة قد تكون مناسبة لشكل النظام السياسي المنشود في سورية الجديدة ويعيد الثقة المفقودة بين الشعب والسلطة بمكوناتها الثلاثة، والذي يقوم على الأسس الدستورية التالية:
• انتخاب الرئيس بصورة مباشرة من الشعب عن طريق الاقتراع العام.
• تقييد سلطة الرئيس التشريعية.
• منح الرئيس سلطات الدفاع والخارجية بمشاركة نسبية من البرلمان.
• منح الرئيس سلطة مقيدة لحل البرلمان.
• تسمية رئيس الحكومة من قبل البرلمان وفي حال فشله ينتقل هذا الحق للرئيس.
• الفصل المطلق بين السلطات وخاصة السلطة القضائية.
• أن تكون مسؤولية الحكومة أمام البرلمان والرئيس منفردين أو مجتمعين.
• عدم اعتماد نظام المجلسين والاكتفاء بنظام المجلس التشريعي الواحد.
• تعيين أعضاء المحكمة الدستورية من قبل البرلمان وتفعيل الرقابة الدستورية بصورة واضحة وصارمة.
وأمام الوضع الذي تعيشه سورية اليوم، وبداية مرحلة جديدة في تاريخها السياسي، وأمام التشظي الذي تعانيه الجغرافيا السورية وتعدد الانتماءات الاثنية والطائفية والسياسية الداخلية والخارجية وتفاقم الأوضاع الاقتصادية وكثرة التحديات التي ستواجه أي حكومة قادمة سواء في إطار مكافحة الفساد أو استرداد الأموال المنهوبة وإعادة بناء الجيش وعودة المؤسسات الحكومية إلى القيام بوظائفها في ظل دولة مترهلة وضعيفة، فالمطلوب من الجميع الاستفادة من التجربة الليبية من خلال الخروج من مفهوم الثورة وأدبياتها والانتقال إلى مفهوم الدولة باعتبارها المآل الوحيد لأي توجهات سياسية أو إصلاحية أو تنموية، وفي سبيل تكريس سبيل السلم الاجتماعي وتعزيز الاستقرار المنشود لجميع السوريين.
مع تمنياتنا أن يكون المسار التأسيسي للدستور القادم مساراً تفاوضياً وتشاركياً يجمع مختلف مكونات المجتمع السوري ويراعي بشكل أساسي المعايير الدولية لحقوق الإنسان وأهمها الحقوق السياسية وسيادة القانون.
* أستاذ جامعي ومستشار
قانوني- لندن.