عقوبات أوروبا على روسيا ضربة قوية

نشر في 18-12-2022
آخر تحديث 17-12-2022 | 18:58
من الواضح أن تصرفات روسيا في أوكرانيا غير مبررة وغير معقولة، ولكن ليس منطقياً لأوروبا أن تستجيب من خلال الإضرار بقدرتها التنافسية ومكانتها العالمية، إذ ستستغرق أوروبا سنوات حتى تتعافى من أزمة الطاقة غير المسبوقة التي ساعدت في اندلاعها.
 بروجيكت سنديكيت

يجب أن تلحق العقوبات- التي تعد وسيلة متزايدة الأهمية في السياسة الخارجية الغربية- ضرراً كبيراً بالهدف دون فرض تكاليف باهظة لا يمكن أن تتحملها الدولة التي تفرضها، وهذا أمر واضح، ولكن عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا- التي تهدف إلى معاقبة البلاد على حربها العدوانية الوحشية ضد أوكرانيا- لا تفي بهذا الشرط.

وتركز خطة الاتحاد الأوروبي لمعاقبة روسيا على محاولة الحد من اعتماده على الطاقة الروسية المنخفضة التكلفة التي دعمت نموه لفترة طويلة، بما في ذلك عن طريق زيادة اعتماده على الغاز الطبيعي المسال المستورد من الولايات المتحدة ومن أماكن أخرى، ولكن الغاز الطبيعي المسال لطالما كان بديلاً باهظ الثمن (وكثيف الكربون) لغاز الأنابيب، فقبل غزو روسيا لأوكرانيا، كان سعره أعلى 4 إلى 5 مرات من الغاز الطبيعي، والآن، أصبح سعره باهظا، إذ منذ بدء الحرب، زادت تكلفة الغاز الطبيعي المسال بأكثر من الضعف.

ولكن، بما أن الكرملين خفض من تدفقات الغاز إلى أوروبا، ليضمن أن يكون هو من يُملي الجدول الزمني للتخلص التدريجي من الإمدادات الروسية بدلاً من الاتحاد الأوروبي، لم يكن أمام الدول الأوروبية خيار سوى الاعتماد بصورة متزايدة على واردات الغاز الطبيعي المسال. ويخلق هذا الأمر تحديات خطيرة لقاعدة التصنيع في أوروبا، لدرجة أن بعض الشركات الأوروبية تفكر الآن في تحويل الإنتاج إلى الولايات المتحدة، التي لا تقدم وقوداً أقل تكلفة فحسب، بل تقدم أيضاً إعانات ضخمة وائتمانات ضريبية بموجب قانون خفض التضخم الجديد.

وبالفعل، أدى قرار أوروبا بتخليها عن الغاز الروسي إلى زيادة احتمالية حدوث ركود عميق، إذ أدى الارتفاع الصاروخي في أسعار الغاز- التي ارتفعت 14 مرة مقارنة بمستوياتها قبل عامين- إلى زيادة التضخم وزعزعة استقرار الأسواق المالية في منطقة اليورو، لذلك، عندما تكون اقتصادات أوروبا على شفا الانكماش، ترتفع تكلفة المعيشة، ويلوح خطر انقطاع التيار الكهربائي في الأفق.

إن اتخاذ صانعي السياسة الأوروبيين لإجراءات يائسة مثل وضع حد أقصى للأسعار والرسوم الجمركية المنظمة، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الوضع، ومن أجل أن تحافظ الحكومات الأوروبية على الغاز، تحول بعضها إلى الفحم، وفضلا عن ذلك، ناشد القادة الأوروبيون مثل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الرئيس الأميركي، جو بايدن، لتخفيف الضغط على اقتصاداتهم من خلال تعديل بعض أحكام قانون خفض التضخم المثير للجدل، وبعد أشهر من التوصل إلى اتفاق لتقوية الناتو وتوسيعه، بدأت العلاقات عبر الأطلسي في التدهور.

إن الشيء الوحيد الذي يبدو أن الاتحاد الأوروبي غير راغب في التفكير فيه هو تغيير مسار العقوبات، فخلال هذا الشهر فقط، فرضت حظرا على واردات الخام الروسي وانضمت إلى شركائها في مجموعة الدول السبع الكبرى في وضع سقف لسعر البرميل قدره 60 دولاراً.

رغم أن روسيا عانت وحققت أوكرانيا انتصارات عسكرية بارزة فإنه لا يزال خُمس الأراضي الأوكرانية تقريباً تحت الاحتلال الروسي

وتُذكرنا عقوبات أوروبا بقانون تعريفات «سموت هاولي» للتعريفة الجمركية الأميركية لعام 1930، الذي رفع رسوم الاستيراد إلى مستويات كبيرة على أكثر من 20000 سلعة، إذ بدلا من أن تحمي الرسوم الجمركية الصناعة الأميركية، دفعت الدول الأخرى إلى الانتقام، مما أدى إلى تعميق الكساد الكبير والمساهمة في صعود التطرف السياسي، خاصة في أوروبا.

واليوم، أيضا، تتجه سياسات العديد من الدول الأوروبية إلى اليمين، إذ تعود جذور الحزب الحاكم الحالي في إيطاليا إلى حركة «بينيتو موسوليني» الفاشية، كذلك، فإن الديموقراطيين في السويد لهم جذور نازية جديدة، ففي بولندا والمجر، تظهر الحكومات اليمينية نزعات استبدادية متزايدة، وإذا أدى ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم الجامح إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية- وهو سيناريو محتمل على المدى القصير- فقد تكتسب قوى اليمين المتطرف مزيدا من الأرض في جميع أنحاء القارة.

وقد يجادل المرء بأن التكاليف الباهظة للعقوبات كانت تستحق عناء تحملها إذا كانت تعرقل إلى حد كبير المجهود الحربي الروسي، ولكن رغم أن روسيا عانت بالتأكيد، وحققت أوكرانيا بعض الانتصارات العسكرية البارزة، فإنه لا يزال ما يقرب من خُمس الأراضي الأوكرانية تحت الاحتلال الروسي، وإذا كان الاتحاد الأوروبي يعاني كثيرا، في حين يتقدم العدوان الروسي على قدم وساق، فإن العقوبات تصبح بمنزلة جلد للذات، ولهذا يجب ألا يقود الغضب الأخلاقي السياسة أبدا مهما كانت مبرراته.

ومن المؤكد أن الصورة الدولية للاتحاد الأوروبي طالما استندت إلى سمعته كقوة للديموقراطية وحقوق الإنسان ونظام قائم على القواعد، مما يعزز قضية الرد الجريء على العدوان الروسي، وإن كان ذلك مكلفاً، ولكن لو كان للأشخاص الهادئة تأثير لكان واضحاً أن الانتقال السريع من الاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية من شأنه أن يقوض مكانة الاتحاد الأوروبي العالمية من خلال تقويض أوراق اعتماده في مجال الاستدامة- وخير مثال على ذلك هو التحول إلى الفحم- ومن خلال التسبب في أزمة طاقة عالمية، وهو ما يضر بالدول الفقيرة.

إمدادات النفط والغاز الطبيعي المسال الروسي لأوروبا كانت شحيحة ولم تكن هناك قدرة إنتاج كافية لتعويض خسارة هذه الإمدادات

ونظراً إلى أن الاتحاد الأوروبي يمثل 11 في المئة من استهلاك الطاقة العالمي، فإن سعيه إلى تأمين إمدادات بديلة كان لابد أن يعطل الاقتصاد العالمي بأكمله، وعلى أي حال، لم تكن الإمدادات البديلة التي حصل عليها الاتحاد الأوروبي مضطربة، إذ كانت إمدادات النفط والغاز الطبيعي المسال الدولية شحيحة بالفعل، ولم تكن هناك قدرة إنتاج كافية لتعويض خسارة الإمدادات الروسية.

ونتيجة لذلك، عندما رفض الاتحاد الأوروبي الطاقة الروسية، واجه العالم فجأة ندرة في الطاقة، حيث فقدت بلدان في آسيا وأميركا اللاتينية وأماكن أخرى إمكانية الوصول إلى بعض الإمدادات التي كانت تعتمد عليها في السابق، وفي الواقع، شجعت أسعار الغاز الأوروبية المرتفعة بعض الشاحنين على تحويل شحنات الغاز الطبيعي المسال من آسيا إلى أوروبا.

ولفترة طويلة جداً، اعتقد الاتحاد الأوروبي أنه يمكن إدارة العلاقات الاقتصادية والتجارية دون مراعاة السياسة الخارجية والأمن، وبسبب حرب أوكرانيا أصبح هذا النهج غير مقبول، إلا أن هذا كان ينبغي أن يخلق مناقشة أكثر مرونة بشأن الإجراءات التي يجب اتخاذها لمواجهة الحرب، بدلاً من الانتقال المفاجئ عن إمدادات الطاقة الروسية، وكان هذا قراراً كبيراً أثر بصورة مباشرة على الأمن الاجتماعي والاقتصادي لأوروبا، وباتخاذه بتهور، ارتكب الاتحاد الأوروبي خطأً استراتيجياً فادحاً.

ومن الواضح أن تصرفات روسيا في أوكرانيا غير مبررة وغير معقولة، ولكن ليس منطقياً لأوروبا أن تستجيب من خلال الإضرار بقدرتها التنافسية ومكانتها العالمية، إذ ستستغرق أوروبا سنوات حتى تتعافى من أزمة الطاقة غير المسبوقة التي ساعدت في اندلاعها.

* براهما تشيلاني أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات ومقره نيودلهي، وزميل في أكاديمية «روبرت بوش» في برلين.

back to top