وجهة نظر: الأمْوَلة Financialisation
شاع مفهوم نقمة الموارد Resource Curse في اقتصادات عدد من بلدان الموارد الطبيعية، وقد ساهمت هذه النقمة في عرقلة تنويع مصادر الدخل بالقطاعات الحقيقية، المصدر الرئيسي للنمو (انظر مقالنا في صحيفة الجريدة الغرّاء بتاريخ 21 مايو 2024)، من خلال هيمنة قطاع واحد، المرتبط بالمورد الطبيعي، على الأداء الاقتصادي الكلي.
وبناء على المنطق نفسه، فإن سيطرة القطاع المالي Financial Sector (المقصود بالقطاع هنا هو قطاع الوساطة المالية Financial Intermediation، وليس المالية العامة Public Finance) على الاقتصاد تشبه سيطرة قطاع المورد الطبيعي، وهو ما يطلق عليه «الأمولة».
ويتجسد ذلك، على سبيل المثال، من خلال تسارع معدل نمو حجم الائتمان والرسملة السوقية، بشكل أسرع من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للقطاعات الحقيقية. وكما لاحظت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OEDC أنه خلال الـ 50 عاما الماضية، تقريبا، شهد نمو الائتمان للقطاع العائلي ورجال الأعمال نموا فاق بحوالي 3 مرات نمو النشاط الاقتصادي، وعلقت المنظمة بأن هذه الظاهرة، رغم أهمية التمويل، ستؤدي الى تباطؤ النمو الطويل الأجل، والمزيد من عدم المساواة. ويعبّر مؤيدو الأمولة عن الفخر من خلال الشعار القائل: مَن يحتاج الصناعة التحويلية إذا كان لدينا المدينة؟ (بالإشارة الى مدينة لندن كمركز مالي).
والفارق بين نقمة المورد الطبيعي، ونقمة «الأمولة» كبير. فعلى سبيل المثال أولا، يتصف مصدر النقمة الأولى بأنه طبيعي (هبة طبيعية)، في حين أن الأمولة هي من صنع السياسات التي من شأنها أن تسّهل أمولة الاقتصاد. ثانيا، أن الهبات الطبيعية لا تقود، كقدر، الى النقمة، في حالة الإدارة الجيدة للمورد الطبيعي، التي تقود للتنويع والاستدامة (النرويج وأستراليا وشيلي مثلا). ثالثا، يمكن تحجيم مضار الأمولة من خلال نظم وسياسات تقلل هيمنة القطاع المالي، إلا أنه لا يمكن إلغاء المورد الطبيعي.
ومن المهم أن نميّز، في هذا المجال، بين رأس المال الحقيقي Real، والخيالي Fictitious. حيث يخدم الأول، الحقيقي، حركة رؤوس الأموال الصناعية (والقطاعات الحقيقية الأخرى)، وبالتالي تخلق الناتج والدخل من خلال العمليات الإنتاجية. في حين أن رؤوس الأموال الخيالية تتمثل في الأصول المالية، التي لا تخلق، بحدّ ذاتها ناتجا حقيقيا، بل تسهم فقط بإعادة توزيع الدخل، والمرتبطة بظاهرة الأمولة. وطالما أن الأسواق المالية ذات الأصول الضخمة تتمركز في البلدان المتقدمة، فإن هذه البلدان تتمتع بأغلب الدخل المعاد توزيعه. ولعل من أفضل الأمثلة، في مجال الأمولة ما أشار له (Shaxson N.، The Finance Curse: How the Global Finance is Making All of Us Poorer، Book Review، The Guardian، Oct. 23,2018)، حيث استشهد المؤلف بشركة بريطانية تبيع تذاكر القطار الكترونيا، وتعود ملكية هذه الشركة الى شركة أخرى، والشركة الثانية تعود ملكيتها بدورها الى شركة ثالثة، وهكذا الى الشركة المالكة الخامسة. ويصف المؤلف كيف أن قيمة التذكرة المدفوعة للشركة الأولى تعبر القنال الإنكليزي، لتصل الجنة الضريبية Tax Heaven في جيرسي Jersey (أكبر جزر القنال بين فرنسا وبريطانيا، وتتبعع التاج البريطاني، إلا إنها تتمتع بالاستقلال الذاتي) ثم تعود الى لندن لتمر بـ 5 شركات، قبل أن ترسل مرة أخرى الى جيرسي في الطريق الى البر الرئيسي الأوربي، حيث تدخل بحساب شركتين في لوكسمبرغ Luxembourg، والتي تعتبر جنة ضريبية أخرى، وهنا تدخل النفق المالي، حيث يصعب تعقبها نسبيا. إلا أنها تظهر على السطح في منطقة الكاريبي Caribbean، حيث تظهر في ثلاث أو أربع شركات غامضة في جزر كي مان Cayman. وترتبط رسوم القطارات الإلكترونية، فيما بعد، مع حشد كبير من التدفقات المالية تدار من قبل شركة استثمار أميركية ضخمة (وفق ما أورد المؤلف). ووفقا الى (Moosa، I.، Financialisation: Measures، Driving Forces and Consequences، Edward Elgar، 2023، فإن الرقم القياسي للأمولة لعدد، 20 بلدا، من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (متوسط موزوزن من 5 مكونات فرعية: مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي، والائتمان المحلي للقطاع الخاص كنسبة من الناتج، وائتمان القطاع المصرفي للقطاع الخاص كنسبة من الناتج، وتداول الأسهم كنسبة من الناتج، والرسملة السوقية للشركات المدرجة كنسبة من الناتج)، تعتبر المملكة المتحدة ذات أكبر رقم قياسي، بين 0 و100، للأمولة (أكبر من 60)، ثم لوكسمبرغ (في حدود 58)، ثم الولايات المتحدة(حوالي 57)، والأقل هي أيرلندا (نحو 3).
وختاما، تخبرنا دورة هذه التذاكر الإلكترونية، المشار إليها أعلاه، بأن اقتصاد الأمولة هو الأكثر ملاءمة لغسل الأموال، والتهرب الضريبي، وأن أغلب ما يدخل هذا الاقتصاد يخلق نقوداً من النقود، من دون أن يضيف قيمة مضافة، وبعبارة أخرى، يتربّح من دون أن ينتج.