محمد الشارخ كما عرفته
الوجيه العَرَبيّ الكويتي «محمد بن عبدالرحمن الشارخ»، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أشهر تَركَ مكانًا شاغرًا، إذ إن جهوده وإنجازاته تجعل من الصعب تكراره، فقد دفعه نجاحه في مجال الأعمال إلى خدمة ليس وطنه «الكويت» الصغير حجمًا، الكبير تأثيرًا فحسب، بل أمتيه العربية والإسلامية، فأسس شركة «صخر» لبرامج الحاسوب التي انبثقت من شركة: «العالمية»، ولها من اسمها نصيب، فقد صمدت كصخرة عربية أمام الرياح المعادية والصعاب والدسائس التي لم يعجبها أن يقوم عربي بمثل هذا العمل اللافت والجبار.
ومحمد الشارخ الحاصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة القاهرة عام «1965م»- بكل صدق- علم من أعلام العَرَب، وَظّفَ أعماله لخدمة اللغة العَرَبية بشكل عملي لا تنظيري- كما تفعل مجمعات اللغة العربية المنتشرة في عالمنا العَرَبيّ- فالفضل بعد الله يعود إليه في إدخال اللغة العربية وفرضها في عدد من أنظمة الحاسب الآلي. وقد تشرفتُ شخصيًا باللقاء به مرة واحدة في منزل الوالد- غفر الله لهما ورحمهما- عندما رَغِبَ في الالتقاء بنا لمناقشة حلمه في توظيف اللغات العربية القديمة ونقلها إلى عالم الحاضر والمستقبل «الحاسب الآلي»، ولا أنسى- رحمه الله- تواصله المستمر معي لمناقشة عدد من القضايا التي تهم الإنسان العَرَبيّ عبر تقنية «الواتس»، وفي هذا اللقاء المباشر وجدته- رحمه الله- كما في رسائله الإلكترونية شخصية: هادئة، وطموحة، وراقية، وخجولة، وعملية. تمتع بقلب سليم ولسان رطب ونية صافية وصادقة، لديه فلتر حقيقي في حديثه يأخذ وقته عند الحديث بكل وقار وهيبة.
وهو من أولئك القلة في عالمنا العَرَبيّ الذين سعوا بقوة إلى رقي المجتمع العَرَبيّ، فكيف ننسى استمرار شركته وأعماله بعد سقوط الكويت في قبضة الجيش العراقي، عندما اتخذ قرار نقل أعماله إلى القاهرة عاصمة أم الدنيا، واستمرارها أيضا في المملكة العربية السعودية بيت العرب، ولم يكن تصرفه كما يفعل بعض رجال الأعمال: «الحفاظ على مكاسبهم المادية» فحسب، بل هدف من قراره «أن تبقى شركته (صخر) تؤدي عملها على الوجه المطلوب».
والحديث عن هذا الرجل- قليل الحضور الإعلامي والحديث عن النفس، فيما عدا ظهوره النادر مع الإعلامي المميز «عبدالله المديفر» في برنامجه «الليوان»- ذو شجون لما تميز به من فكر، فهو من جيل تشبع بالبعد العَرَبيّ المتزن وعلى أكتافهم ارتقت الكويت فكريًا وحضاريًا، ولولا الغزو العراقي الذي كسر مجاديف هذا الجيل وأعماله لعرفنا كويتا مختلفة، فظهر- بعد الغزو- جيل لم يقدر ما فعله جيل البناء والتأسيس، ففي جيلهم كان مجلس الأمة والصحافة والثقافة تسير بوتيرة قوية ورؤية واضحة لا لبس فيها، أما اليوم فانزوى الكويتي خلف الكواليس باهتمامات لا تتعدى مصالحه الشخصية والقبلية والأسرية، فجاء اختيار المجتمع لأعضاء مجلس الأمة على أساس قبلي ومناطقي ومذهبي، وليس- كما كان في السابق- على أساس الكفاءة والقدرة الحقيقية لخدمة الكويت.
وليس أدل عندي على وطنية جيل «الشارخ»- غفر الله للميت منهم وأطال في عمر الحي- حبهم لوطنهم «الكويت» الذي تمثل في رفضهم القاطع- رغم الإغراءات والتهديدات- مسايرة النظام العراقي وتأييد احتلاله لبلدهم، وهذا الفارق بين هذا الجيل والجيل العَرَبيّ الحالي الذي نخرت فيه الوطنية الزائفة والمذهبية النتنة.
لم يكتف بجهاز صخر، بل عمل مع فريقه على تطوير: القارئ الآلي والترجمة الآلية والنطق الآلي، إضافة إلى تطوير شركته لعدد من البرامج التعليمية والتثقيفية، وغيرها الكثير في خدمة الدين الإسلامي والسيرة النبوية وتراث هذا الأمة العريق، وكلي أمل بالإخوة في الكويت- وهم أهل لذلك- تكريم هذا العلم بما يليق:
1- تسمية أحد شوارع الكويت باسمه، فهو قامة كويتية عربية وضعت بصمة في الجدار العَرَبيّ الحضاري.
2- تبني جامعة الكويت تسمية كلية الحاسب الآلي أو قسم أكاديمي في الكلية أو قاعة كبرى باسمه، فهو من جيل لم يخدم الكويت فحسب، بل العرب، عرفانا لدوره وفريقه في خدمة الحاسب الآلي.
3- أن تعمل عائلته ومحبوه بدعم من الجهات ذات العلاقة على إنشاء متحف يحكي قصة مشروعه والمراحل التي مر بها، وحياة هذا الرجل، فمن المعيب أن ينسى المجتمع العَرَبيّ مثل هذه الشخصيات المؤثرة، ولعل متحف الكويت الوطني يتبنى وضع قاعة خاصة لتطور الحاسوب صخر، ومؤسسه، وقصة نشأة الحاسب الآلي.
4- أتمنى أن تقوم جامعة الكويت أو الجهات الثقافية بإقامة مؤتمر علمي عن هذه التجربة، وكيفية استمرارها كي لا تنتهي بعد وفاة صاحبها والمؤمن بها.
وأخيرًا يرى بعضنا أن «الشارخ»- رحمه الله- لم يحظ بالدعم والمساندة- في أثناء حياته- من المجتمعات والجهات ذات العلاقة في الحكومات العربية، فلعلنا ندعم مشروعه بشكل حقيقي خدمة لهذه الأمة التي تكالبت عليها الذئاب من كل مكان.
رحمك الله يا محمد الشارخ.
* أستاذ جامعي سعودي.