قيمة عقد اللؤلؤ الطبيعي
يعد اللؤلؤ الطبيعي ثروة تاريخية يملكها ميسورو الحال ويتباهى بها ذوو النفوذ منذ قديم الزمان، وتحرص النساء على اقتناء اللؤلؤ، لما يتميز به من نقاء وصفاء وجمال، وقد ارتبطت حياة شعوب الخليج العربي بمهنة الغوص على اللؤلؤ قبل اكتشاف النفط في المنطقة وظهور اللؤلؤ المستزرع في اليابان، فكان الغوص على اللؤلؤ مصدر الرزق والوسيلة الرئيسة التي يقتات من ورائها عامة الناس، وكانت مهنة الغوص قاسية ذات مشقة وعناء، حيث تبحر السفن الى مناطق الغوص من أول يونيو وتعود في منتصف سبتمبر، وخلال هذه المدة يعمل الغواصون يوميا بجد منذ طلوع الفجر حتى الغروب للحصول على أكبر كمية من المحار، ولا يتخلل هذه المدة إلا القليل من الوقت للراحة والصلاة، ويصادف الغواص خلال عمله العديد من مخاطر أسماك البحر وخاصة الجرجور والدول (قنديل البحر)، ويواجه مشاكل صحية ناتجة عن ضعف التغذية والغوص المتواصل تحت أشعة الشمس الحارقة، ومع كل هذه المشقة قد لا يكون المحصول من المحار مجزيا أو لا يحمل بين ثناياه المراد من اللؤلؤ.
يشتهر الخليج العربي بالمحار من نوع Pinctada radiata ويتميز لؤلؤ هذا النوع باللون الأبيض والكريمي والأصفر المائل للذهبي، كما يتميز بصفائه ولمعانه العالي المرغوب بالأسواق العالمية، وكانت الصناعات المرتبطة باللؤلؤ الطبيعي في الماضي مزدهرة كصناعة المجوهرات وصياغة عقود اللؤلؤ ذوات الأحجام والألوان المتناسقة الجميلة، فعندما تزور أسواق المجوهرات في دول الخليج في الوقت الحالي، وخاصة سوق المنامة في مملكة البحرين ستشاهد أنواعاً من عقود اللؤلؤ الخليجي الطبيعي معروضة للبيع، وأثمانها مرتفعة مقارنة باللؤلؤ المستزرع، ولكن لو علمنا حقيقة الجهد الذي يبذل بالغوص في الماضي لما استكثرنا الثمن، وهذا يقودنا إلى التساؤل عن كمية المحار التي لا بد من الحصول عليها حتى تعطينا العدد المطلوب من اللآلئ لعمل عقد متناسق الألوان والأحجام.
تهدف هذه المقالة إلى الإجابة عن هذا السؤال بناءً على ما ذكره المؤرخون وعلى المعلومات العلمية المتوافرة، وبيان عدد المحار الذي لا بد من فلقه للحصول على عدد اللآلئ التي تكفي لعمل عقد، وبيان العدد المطلوب من الغواصين حتى يتمكنوا من جمع ذلك العدد من المحار.
لقد ذكر عدد من المؤرخين نتاج محصول المحار من رحلات الغوص، حيث ذكر آلن فالرياس صاحب كتاب «أبناء السندباد» الذي زار الكويت عام 1939 وشارك في رحلة غوص على متن إحدى السفن، أن كميات صيد المحار تبلغ نحو سبعة أكياس في اليوم وأن محصول اللؤلؤ لا يزيد مقداره على ملعقة شاي كبيرة مملؤة وأن أحجامها صغيرة وليس لها قيمة عالية، كما أفاد المؤرخ لوريمر الذي دوّن معلومات عن نشاط الغوص في المنطقة منذ عام 1915 بأن الغواص يجمع ما بين 3 الى 20 محارة في الغطسة الواحدة أو يرجع دون محار، وعليه فقد افترضت أن متوسط ما كان يجمعه الغواص في الماضي هو خمس محارات في كل غطسة، وكان الغواص في الماضي يعمل نحو 40 غطسة في اليوم تقريبا، وبالتالي فإن الغواص الواحد يجمع نحو 200 محارة في اليوم.
أنشأت بلدية الكويت سوقاً خاصاً لبيع المحار بالشويخ عام 1982 وأغلقته عام 1998، وكانت تطرح في هذا السوق يوميا كميات كبيرة من المحار معبأة بأكياس وزن الكيس الواحد نحو سبعة كيلوغرامات، وكانت هذه الأكياس تباع بالمزاد بعد صلاة العصر، وكان يرتاد السوق يوميا نحو ثلاثين شخصاً لشراء المحار وفلقه واستخلاص اللؤلؤ، ثم يتم بعد ذلك بيع اللؤلؤ الذي تم الحصول عليه في اليوم نفسه، حيث يقوم بشرائه مجموعة صغيرة من تجار اللؤلؤ أو ما يطلق عليهم قديماً الطواويش (جمع طواش)، ويقوم هؤلاء التجار بدورهم ببيع اللؤلؤ بأسواق مملكة البحرين أو إحدى دول الخليج بأفضل الأسعار، وذكر المؤرخ سيف مرزوق الشملان أن الطواويش في الماضي، وبعد أن يشتروا اللؤلؤ يقومون بالسفر الى الهند وبعضهم يسافر الى أوروبا لبيعه، وكان من أكبر هؤلاء التجار هلال فجحان المطيري، رحمة الله عليهم أجمعين.
وفي يناير 1989 ولمدة عام ونصف وأثناء عملي بمعهد الكويت للأبحاث العلمية قمنا بدراسة مستفيضة على سوق المحار بالشويخ، وشارك معي في هذه الدراسة الدكتور شاكر الهزيم والأستاذ عبدالرحمن يوسف، فقد قمنا بزيارات يومية إلى السوق لحصر عدد أكياس المحار التي تطرح في السوق وتدوين عدد اللآلئ التي تباع وأحجامها، كما قمنا في كل أسبوع بشراء عدد من أكياس المحار ونقلها الى المختبر حيث كان يتم فلقه واستخراج اللؤلؤ إن وجد وقياس حجمه.
كانت 25 زورقاً تقريباً تستخدم في عمليات الغوص خلال فترة الدراسة، ويعمل على كل زورق غواص أو غواصان، ويقوم هؤلاء الغواصون بالغوص في المناطق ذات القيعان الصخرية المناسبة لمعيشة ونمو المحار وتسمى الهير، وتمتد الهيرات من الفحيحيل شمالاً حتى النويصيب جنوباً، وأشهرها مغاصات ميناء عبدالله وأم الهيمان والجليعة والزور وتسمى قديما هيرات العدان، يستخدم الغواص أثناء غوصه أنبوباً من المطاط موصلاً بمضخة هواء مثبتة على تيوب عجلة سيارة، وتزود المضخة الغواص بالهواء أثناء غوصه لجمع المحار، يستمر الغواص بعمله منذ الصباح حتى أذان الظهر ويتم بعدها وضع المحار في أكياس وينقل الى سوق المحار بالشويخ لبيعه.
طرح في السوق في الفترة من يونيو 1989 حتى يناير 1990 (8 شهور) نحو 6 ملايين محارة عثر بداخلها على 400 لؤلؤة قطر الواحدة 4 ملليمتر (مم) أو يزيد، وعلى 984 لؤلؤة حجمها بين 3 -4 مم، وبالتالي فإن احتمال العثور على لؤلؤة حجمها 4 مم أو يزيد ضئيل جداً ويساوي لؤلؤة واحدة لكل 15.000 محارة، كما تبين من فحص 4.400 محارة في المختبر أن 96 منها فقط يحمل بداخلة لؤلؤة أو أكثر لكن حجم اللآلئ التي عثر عليها صغير ولم يزد قطر اللؤلؤة الواحدة على 1.5مم، وهذه النتائج تؤكد ما ذكره المؤرخون حول نشاط الغوص في الماضي وضآلة نسبة الحصول على اللؤلؤ ذي الحجم المناسب لعمل العقد.
وبناءً على النتائج التي حصلنا عليها، يمكن تقدير عدد المحار المطلوب جمعه حتى يكتمل عقد من اللؤلؤ طوله 25 سم ويحتوي على 62 لؤلؤة أحجامها 4 مم بما لا يقل عن 930 ألف محارة، وهذه الكمية من المحار تعادل حصاد ما لا يقل عن عمل 4.650 غواصاً إذا افترضنا أن الغواص الواحد يجمع 200 محارة في اليوم، ولا شك أنه كلما زاد حجم اللآلئ في العقد والتناسق في ألوانها زادت كميات المحار المطلوبة للحصول على هذه اللآلئ، بيد أن بعض العقود ذات اللآلئ الكبيرة قد تم جمعها من محاصيل ناتجة عن عدة سنوات من مواسم الغوص.
ولا يسعنا هنا إلا أن نوقر هؤلاء الرجال الذين أفنوا أعمارهم في مهنة الغوص تلك المهنة الشاقة والمضنية ذات المردود الضئيل في توفير لقمة العيش، كما أذكر بالعرفان نشاط النادي البحري الكويتي في احتفاله السنوي بتخليذ ذكرى كفاح الأجداد في مهنة الغوص.
وأود في الختام أن أشكر الصديق الدكتور مناف بهبهاني على تصحيحاته القيمة على مادة المقالة، كما أشكر الأصدقاء عبدالمجيد الشطي والدكتور محمد الرمضان على ملاحظاتهم اللغوية وعلى آرائهم السديدة في مادة المقالة.
* مدير دائرة الزراعة البحرية والثروة السمكية بمعهد الكويت للأبحاث العلمية سابقا