حقيقة شائكة عن الحروب الطويلة

نشر في 09-12-2022
آخر تحديث 08-12-2022 | 20:08
دخان القصف الروسي يتصاعد في سماء كييف
دخان القصف الروسي يتصاعد في سماء كييف
حين أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا في شهر فبراير الماضي، لم يتصوّر الكثيرون أن تستمر الحرب حتى هذه المرحلة، ولم يتوقع المخططون الروس هذا المستوى من المقاومة الأوكرانية أو حجم الدعم الذي تحصده أوكرانيا من أوروبا وأميركا الشمالية، أو مختلف الشوائب في أداء الجيش الروسي، وأصبح الطرفان الآن عالقَين في مأزق حقيقي، وقد يستمر القتال أشهراً أو حتى سنوات.

ما سبب استمرار هذه الحرب؟ تكون معظم الصراعات قصيرة، ففي آخر قرنَين، كانت معظم الحروب تدوم بين ثلاثة وأربعة أشهر لأن الحرب تبقى أسوأ طريقة لتسوية الخلافات السياسية، وحين تتّضح تكاليف القتال، يبحث الخصوم عن تسوية بشكل عام.

تدوم حروب كثيرة لفترة أطول طبعاً، وفي هذه الحالة، تفشل التسويات لثلاثة أسباب استراتيجية أساسية:

1- حين يعتبر القادة أن أي هزيمة تُهدد صمودهم.

2- وحين يجهل القادة حقيقة قوتهم أو قوة العدو.

3- وحين يخشى القادة زيادة قوة العدو مستقبلاً.

وفي أوكرانيا، تستمر الحرب المحتدمة لهذه الأسباب كلها.

لكنّ هذه العوامل الثلاثة لا تكشف إلا جزءاً بسيطاً من القصة، حيث ترتكز هذه الحرب أيضاً على عامل أيديولوجي واضح، إذ ينكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الهوية الأوكرانية وكيان الدولة فيها، وتتكلم مصادر داخلية عن حكومة تشوبها حملات تضليل خاصة بها وتبدو متعصّبة في التزامها بالاستيلاء على الأراضي، فقد تمسّكت أوكرانيا من جهتها بقيمها الأساسية، وأثبت قادة البلد وشعبه أنهم غير مستعدين للتضحية بحريتهم أو سيادتهم رغم العدوان الروسي مهما كان الثمن، فكل من يتعاطف مع هذه القناعات يعتبرها قِيَماً ثابتة، وفي المقابل يعتبرها المشككون عقيدة متشددة أو شكلاً من العناد، لكن لن تتغير التداعيات المرتقبة بغض النظر عن تعريف تلك القيم: يرفض كل طرف الواقعية السياسية ويحارب انطلاقاً من مبادئه.

قادة أوكرانيا وشعبها أثبتوا أنهم غير مستعدين للتضحية بحريتهم أو سيادتهم رغم العدوان الروسي مهما كان الثمن

لا يُعتبر الصراع الروسي الأوكراني استثناءً على القاعدة، إذ تفسّر القناعات الأيديولوجية عدداً كبيراً من الحروب الطويلة، ويجب أن يعترف الأميركيون تحديداً بماضيهم الثوري تزامناً مع تفاقم صدام المعتقدات الكامن وراء الحرب في أوكرانيا، كذلك، بدأت ديموقراطيات متزايدة تشبه أوكرانيا، حيث تجعل المبادئ الشائعة بعض التسويات غير مقبولة، ويفسّر هذا العناد جزءاً كبيراً من حروب القرن الحادي والعشرين في الغرب، بما في ذلك غزو العراق وأفغانستان، فقد لا يعترف الكثيرون بذلك، لكن غالباً ما يصبح السلام مستحيلاً بسبب الإصرار على التمسك بالمبادئ، وتُعتبر الحرب في أوكرانيا أحدث مثال على المعارك التي لا تستمر بسبب المعضلات الاستراتيجية وحدها، بل لأن الطرفَين ينفران من فكرة التسوية.

لا يُعتبر رفض أوكرانيا القاطع لأي شكل من التسويات غريباً، فقد تكررت هذه المواقف على مر التاريخ، حين قررت الشعوب الخاضعة للاستعمار والظلم أن تناضل في سبيل حريتها رغم جميع الظروف، فهم يرفضون الرضوخ لأسباب متنوعة، منها خليط من السخط والمبادئ، وتُعتبر التنازلات لمصلحة الإمبريالية أو الهيمنة خياراً بغيضاً بكل بساطة أو شكلاً من الضعف.

تبدو نقاط التشابه بين المقاومة الأوكرانية والثورة الأميركية مفاجئة على نحو خاص، ففي تلك الحقبة كما اليوم، كانت قوة عظمى تطمح إلى إحكام سيطرتها على كيان أكثر ضعفاً، وفي ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر، حاولت بريطانيا العظمى مراراً وتكراراً أن تُضعِف استقلالية 13 مستعمرة، فقد كانت القوات البريطانية متفوّقة عسكرياً، وافتقر المستعمرون إلى أي حلفاء رسميين، واعتُبِرت السيادة الجزئية وزيادة الضرائب أفضل صفقة قد يطالب بها المستعمرون، ومع ذلك، رفض جزء كبير من الأميركيين هذه الصفقة، وكتب جون آدامز، في رسالة إلى توماس جيفرسون في عام 1815، أن الثورة الحقيقية تحصل في «عقول الناس»، ثم لاحظ آدامز بعد بضع سنوات أن هذا الهدف تَحقّق بعد إحداث «تغيير جذري في مبادئ المستعمرين، وآرائهم، ومشاعرهم، وعواطفهم». برأي الكثيرين، لم يكن التخلي عن هذه المبادئ عبر التنازل لملك بريطاني وارداً، ففي أوكرانيا، أضعف بوتين استقلالية البلد منذ عقدٍ من الزمن تقريباً، وترفض شريحة واسعة من الأوكرانيين تقبّل المطالبات الروسية بأراضيهم أو الرضوخ للعدوان الروسي انطلاقاً من مبادئهم، لا سيما حين يعني هذا التنازل تهميش مواطنيهم.

المبادئ والتسويات غير المقبولة من أبرز الأسباب التي تدفع الدول الديموقراطية إلى خوض حروب طويلة

تبرز أيضاً نقاط تشابه أخرى مع مفهوم قديم يتجاهله الكثيرون اليوم عند دراسة الحروب، وهو يرتكز على استحالة تجزئة مسائل أو أماكن أو مبادئ معيّنة أو التنازل عنها بأي طريقة، وقد استعمل بعض المحللين هذا المفهوم لتفسير السبب الذي يسمح للمواقع المقدسة والأراضي ذات الانتماءات العرقية بخوض حروب طويلة ومثيرة للانقسامات، ويعتبره آخرون تفسيراً رائجاً لفئة ضيّقة من الصراعات، وسرعان ما تلاشت هذه الفكرة من الأوساط الأكاديمية، لكن يبقى هذا المفهوم قوياً ويمكن تطبيقه على مجموعة واسعة من الصراعات، فحين رفض المقاتلون الشجعان في أوكرانيا، أو الثوريون المناهضون للإمبرالية في الولايات المتحدة خلال حقبة الاستعمار أو في المستعمرات الأوروبية في إفريقيا، التنازل عن الحريات، اتخذوا هذا الموقف لأنهم اعتبروا تلك المقايضة مكلفة أكثر من اللزوم، وأصبح التنازل عن الأراضي والحريات مستحيلاً من الناحية السياسية بعد حصول تغيير جذري في المبادئ وتوجهات الرأي العام.



هذه الظاهرة ليست نادرة بأي شكل، بل إنها طاغية في الأنظمة الديموقراطية، وتُعتبر المبادئ والتسويات غير المقبولة من أبرز الأسباب التي تدفع الدول الديموقراطية إلى خوض حروب طويلة في نهاية المطاف، فلنراجع الحملة الأميركية التي امتدت على عشرين سنة في أفغانستان مثلاً، وبدءاً من عام 2002 وصولاً إلى 2004 على الأقل، حاول المسؤولون في حركة «طالبان» مراراً إبرام صفقات سياسية مع حامد كرزاي الذي كان رئيس أفغانستان في تلك الفترة، لكن وفق مصادر داخلية مُطّلعة، اعتبرت إدارة جورج بوش الابن «جميع فئات طالبان سيئة»، وفي تلك المرحلة أيضاً، ذكر الصحافي ستيفن كول أن وزير الخارجية الأميركي دونالد رامسفيلد اعتبر التفاوض «غير مقبول بالنسبة إلى الولايات المتحدة»، وأعلن أن السياسة الأميركية تجاه «طالبان» تقضي «بجلب العدالة إليهم أو سَوْقِهم إلى العدالة»، ويبدو أن إدارة بوش منعت كرزاي من إبرام أي تسوية سلام.

كانت الحكومة الأميركية تملك أسباباً استراتيجية طبعاً للتشكيك في مصداقية «طالبان»، ومن خلال محاولة إلحاق هزيمة عسكرية كاملة بحركة «طالبان»، أراد المسؤولون في الإدارة الأميركية أن يثبتوا قوتهم ويقنعوا الخصوم الآخرين بعدم مهاجمة الولايات المتحدة، لكن من السذاجة أن نتجاهل إقدام الولايات المتحدة على رفض فكرة التفاوض مع «طالبان» طوال عقدَين تقريباً انطلاقاً من مبادئها بدل الاتكال على استراتيجية مدروسة.

الولايات المتحدة ليست الجهة الوحيدة التي ترفض هذا النوع من الاتفاقيات، ففي مناسبات متكررة، رفضت الحكومات الديموقراطية طوال سنوات مجرّد التفكير بالحوار في خضم مواجهتها للمتمردين والإرهابيين في العراق، وأيرلندا الشمالية، والأراضي الفلسطينية، وأماكن أخرى، واشتكى جوناثان باول، كبير المفاوضين باسم الحكومة البريطانية في أيرلندا الشمالية بين العامين 1997 و1999، من هذا الوضع في كتابه الصادر عام 2015، «Terrorists at the Table» (إرهابيون على الطاولة)، فاعتبر شيطنة العدو ورفض جميع أشكال الحوار نهجاً ضيّق الأفق وسبباً لسقوط عدد غير مبرّر من القتلى، ففي أيرلندا الشمالية، أدركت الحكومة البريطانية في نهاية المطاف أنها تحتاج إلى إطلاق مسار سياسي واضح، ويعتبر باول السلام مستحيلاً إذا كانت العوائق الأيديولوجية تمنع القادة من التفاوض.

لكن لم تبلغ الأحداث في أوكرانيا مرحلة تسمح للأوكرانيين بتقبّل التسوية، ففي الفترة الأخيرة، دعا سياسيون واقعيون مثل هنري كيسنجر وستيفن والت أوكرانيا إلى تجاوز العوائق الأيديولوجية والتنازل عن درجة من سيادتها مقابل السلام، فالفرق بين هذا المعسكر الواقعي والفريق المثالي الذي يطالب أوكرانيا بمتابعة القتال بسيط: يختلف الطرفان حول كلفة التنازلات التي ستضطر أوكرانيا للقيام بها لإبرام الاتفاق وحول إصرار روسيا على غزو جارتها.

المبادئ والتسويات غير المقبولة من أبرز الأسباب التي تدفع الدول الديموقراطية إلى خوض حروب طويلة

لا تزال الأسباب الاستراتيجية التي تدفع الأوكرانيين إلى متابعة القتال ونيل الدعم الغربي قائمة، لكن يجب أن تُعتبر مقاومة روسيا (ورفض جميع أنواع التسويات المقيتة التي تستطيع إنهاء الحرب في أسرع وقت) دليلاً على ثبات قوة القيم والمبادئ في العالم الجيوسياسي.

ستبقى هذه القيم والأفكار أساسية في الحروب التي تشنّها الأنظمة الديموقراطية مستقبلاً، ويبدو الغرب أكثر اهتماماً بالحقوق مع مرور الوقت، فقد أصبح الالتزام بالمبادئ الليبرالية والدفاع عنها أمراً إلزامياً في بلدان كثيرة بغض النظر عن العواقب، ويسمّي الفيلسوف مايكل إيناتيف هذا التحوّل «ثورة الحقوق»، ويُفترض أن تخضع هذه القيم للتعديل وتتابع الحكومات الغربية محاولة الالتزام بها، لكن إذا كانت هذه النزعة تجعل الغرب أقل ميلاً إلى تبنّي الواقعية السياسية، أي مقايضة الحقوق والمبادئ بالسلام أو إبرام الصفقات مع حكّام مستبدين بغيضين، فقد تصبح الحروب المشابهة لحرب أوكرانيا أكثر شيوعاً وتزداد صعوبة إنهائها.

لا تزال الأسباب الاستراتيجية التي تدفع الأوكرانيين إلى متابعة القتال ونيل الدعم الغربي قائمة، لكن يجب أن تُعتبر مقاومة روسيا،

*كريستوفر بلاتمان

back to top