سامي محمد يُنطق الجماد بأنامله البارعة

نشر في 01-08-2024
آخر تحديث 01-08-2024 | 21:16
سامي محمد وتمثال عبدالله السالم
سامي محمد وتمثال عبدالله السالم

العمل الفني موهبة، ومن ثم تُصقل بالدراسة والتجربة والخبرات والممارسات، وقد ازدهر الفن التشكيلي في دول الخليج بشكل لافت وغير مستغرب في كثير من الميادين والمعارض الفنية وصالات العرض، من الفنانين التشكيليين الروّاد، الذين كانوا يبدعون بالريشة واللون والقماش والورق، قبل أن تأتي التقنية الحديثة، التي خدمت الرسامين المبتدئين الجدد، وأنقذت ضعفهم باللون والتكنيك، وأصبح الفن التشكيلي أقرب إلى التصميم.


علي القحيص علي القحيص

أما الأعمال الفنية النحتية بدول الخليج، فهي محدودة العطاء والوجود وقليلة، مقارنة بالفن التشكيلي والكولاج والرسم التعبيري وفن الكاريكاتير والفن البصري الآخر. وذلك لأن فن النحت صعب المراس والتحدي، فهو يحتاج إلى مهارات عالية وذكاء متقد ودقة وصبر وجلَد وآفاق ونفَس طويل، لأن الرسام الموهوب يتعامل مع كتلة صلبة ليحوّلها إلى لوحة ناطقة معبّرة ملهمة وموضوع ذي أبعاد ورسالة وهدف، بطريقته الخاصة للتعامل مع الكتلة الصلبة ليصيّرها الى موضوع مثير للجدل، كما يحوّل الجماد إلى روح بقدرة أنامله البارعة.

إبهار سامي محمد

ومن بين النحاتين الخليجيين المعاصرين الذين برعوا بالنحت الباهر، الفنان الكويتي المبدع سامي محمد (مواليد الكويت عام 1943)، فهو صاحب موهبة خارقة وثقافة فنية نحتية واسعة وعالية متفردة ناطقة بالإبداع، التي تعالج الهمّ والألم والجرح الإنساني عن طريق اللوحات والمجسمات الشاخصة، وسامي محمد يستطيع بلوحاته النحتية وهو يخاطب الوجع والهمّ العام في الكائن البشري المظلوم، رغم أنه من بيئة خليجية ميسّرة لا يعاني الضنك وما تعنيه مواضيع لوحاته التي يجسدها، فهو فنان ملهم يخاطب المتلقي بلغة الصمت، لكنّه يزلزل الأرض من تحته، من خلال أعماله النحتية (الناطقة) بالألم والقسوة والصراخ وإعلان التمرد من دون ضجيج!





فهو منحاز للإنسان وآلامه وهمّه ووجدانه، ويعلن ولاءه المطلق الواضح لمناصرة الحرية الإنسانية، مجاهراً بموقفه، ومسخّرا موهبته، وشاهرا (مشرطه) بوجه الاضطهاد والقمع والظلم والاستبداد، الذي يمارس في المنطقة العربية ضد الموهوب والإنسان الحر بشكل عام، وذلك رغم أنه يكرر أن عدو «الإنسان.. هو الإنسان نفسه»، وليس الأسد المكبل بحديقة الحيوان!

أعماله النحتية تطورت ليصبح من أهم النحاتين بمنطقة الخليج العربي

الفنان الكويتي المبدع سامي محمد، بنى نفسه بنفسه، وصار يفصل بين صورته الذاتية وقراءة الآخرين للوحاته المدهشة، ويعتبر الآخر مراقبا للوحاته، وهي الزاوية التي يرى بها أعماله التي لم يرها هو!

سامي محمد، المولود بالكويت، درس الفن في كلية الفنون بمصر عام 1966، ليبدأ أولى خطواته الدراسية في مصر الغنية بالفن والإبداع والآفاق المشجعة، وزار المتاحف وأشبع رغبته الذاتية في تفحّص المقتنيات الفنية وتنوّعها ومدارسها من خلال موهبته التي دفعته إلى أن يتجاوز الزمن والآخرين ويبدع.

بين عامي 1966و1970 كان طالبا مجتهداً بارعا في القاهرة، وقد خدمته هذه الرغبة الفنية الباهرة في استيعاب القوة النحتية وفنونها وتفاصيلها لدى الرعيل الأول المتقدم قبل ظهور (الذكاء الصناعي)، الذي أصبح يجهز لنا الأعمال النحتية المعلبة حسب الطلب، لكنها بلا حياة ولا روح ولا رونق!

وبحكم تفرغه للفن والرسم والنحت وهوايته الفنية التي أحبها وأنصفته كثيرا، فقد كتب عنه نقاد كثر، لأنّ النقاد الحقيقيين شحيحون في الساحة الفنية بهذا المجال.

مغامرات فنية

وحين جسّد «حاملة الماء»، و«العودة من البحر»، ومنها أعمال أخرى نفذها قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1974، لينفتح على المغامرات الفنية الأخرى الأكثر جرأة وعنفوانا ومزيدا من الحداثة والتنوع وكسر الرتابة، انطلق سامي محمد بين الرسم الزيتي والنحت، ليعالج المواضيع الإنسانية التي يتمناها.. فيقول «هذه الأفكار وجدت كثيرة تتقاذفني وكنصل الخنجر هاج بي السؤال.. ماذا أريد»؟


عمل سامي محمد الذي بيع مقابل 80 ألف دولار عمل سامي محمد الذي بيع مقابل 80 ألف دولار

والواقع أن أفكار فنان الكويت المبدع وموهبته ذهبت بعيدا، وتجاوزت المحيط الخليجي، عبر اتجاهات فنية كثيرة في مراحل سيرته الغنية بالإبداع والتفرد والحس الإنساني، وخاصة فن النحت الذي تميّز وأبدع فيه أيما إبداع، وفي التشكيل ايضا.

براعة عالية

لكن أعماله النحتية (المرعبة) تطورت، ليصبح من أهم النحاتين بمنطقة الخليج العربي، لما يملكه من مهارات فنية وبراعة عالية وأفكار مدهشة للغاية وملهمة جدا، وليبحر بالتراث العربي والخليجي والزخرفة الإسلامية، ومن ثم يفاجئنا بجدارية نذهب بها معه إلى السريالية، لنقرأ تفاصيلها ونفكك رمزيتها.

وقد طوّع سامي محمد البرونز ليجعل منه تحفة فنية باهرة تتحرك، وكذلك صهر الخشب الصاج، ليجعل منه أسطورة فنية تكاد تقول خذوها معكم لتعلّم النطق!

أعماله لوحات رائعة ومجسمات باهرة وكتل صامتة شاهدة على الأحداث، لكننا يمكن أن نسمع الصراخ داخلها وهي تتألم من الوجع!

لوحة الرجل العاري الذي انطلق من القيد وخرق الجدار، ليفاجأ بجدار آخر، ويصدم به بقوة، وكأنك أنت هو!

أما المنحوتة البرونزية (حادث ضد مجهول)، التي تتوسط الأرض، وهي لإنسان دهسته على الأرض سيارة مجهولة الهوية، فتركت أثر عجلاتها على جسده الملقى أرضا، بشكل واضح متفرد بارز، ربما تتعرف عليها الجهات المعنية من خلال ملامح عجلات المركبة المرصعة، التي تركت بصماتها على جسد الرجل المجني عليه، وذلك لدقة التفاصيل!

هذا هو - باختصار - إبداع الفنان سامي محمد...!

* كاتب سعودي

back to top