وجهة نظر: أهمية وحدات الاقتصاد الكلي في وزارات المالية

نشر في 03-07-2024
آخر تحديث 02-07-2024 | 18:23
 د. أحمد الكواز

قلّما تخلو وزارة مالية، دولياً وعربياً وخليجياً، من وحدة الاقتصاد الكلي والسياسة المالية Macro-Fiscal Unit، التي تعنى بربط السياسة المالية (محل اهتمام هذه الوزارات، ومن خلال الموازنة العامة للدولة) بكل أنشطة الاقتصاد المعني، وبالعكس. وعادة ما تربط هذه الوحدة بوزير المالية لما تحتاج إليه من قرارات سيادية ومهنية عالية، في حالة عمل الوحدة بالشكل المطلوب، وليس الشكلي، كما هو الحال، للأسف، في بعض الدول، كما أنها لا تعمل تحت الإدارة المسؤولة عن إعداد الموازنة للدولة، لكونها تمثل وجهة نظر اقتصادية، يترتب عليها تغيير في نمط إعداد الموازنة، قد لا يلقى قبولاً بفعل سيادة الفكر والمنهج المحاسبي الحكومي لعقود طويلة. لذا وجب أن تعمل تحت مظلة إدارية سيادية منفصلة، وهي مكتب وزير المالية، كما هو الحال في العديد من التجارب الناجحة.

والسؤال الآن: لماذا تعتبر هذه الوحدة مهمة؟... تكمن الإجابة عن هذا السؤال في حقيقة دور الوحدة في إعادة هيكلة التعامل مع الموازنة العامة للدولة من كونها وثيقة يطغى عليها الفكر المحاسبي، إلى وثيقة اقتصادية كلية/ محاسبية حكومية، تعكس إلى حدّ بعيد تحقيق أهداف الاقتصاد، من حيث، مثلاً، الاستقرار الاقتصادي (المساهمة في التحكم بمعدل التضخم)، والتنسيق مع الجهات المسؤولة عن سوق العمل، وتطورات ميزان المدفوعات، والدين العام، والقطاع النفطي في حالة البلدان النفطية (وبهدف أساسي هو تحييد آثار تقلبات أسعار النفط على الموازنة العامة للدولة)، والبنك المركزي (التنسيق الفني، المفترض، بين السياسة المالية والنقدية بهدف الاستقرار الاقتصادي، من خلال المحافظة على مستوى عرض نقدي مبرر اقتصادياً)، والتنسيق مع السياسة الصناعية لتحفيز القطاع الخاص الصناعي (المحلي والأجنبي) في اتجاه المزيد من الاستثمارات على حساب الواردات بهدف استيعاب أعداد أكبر من العمالة المواطنة، وتوسيع القاعدة الضريبية (ضريبة الشركات) وتنويع الصادرات، وبالتالي تخفيف أهم مصادر العبء على الموازنة.

ونظراً للأهمية الاقتصادية القصوى لهذه الوحدة، فما هي المهام الموكلة لها حتى تفعّل التنسيق الفعّال بين السياسة المالية والاقتصاد الكلي؟... من أهم المهام التالية: أولاً: أن تعمل الموازنات السنوية تحت مظلة الموازنة العامة متوسطة الأجل، ولا يجب أن تختزل هذه الموازنة من خلال تخفيض بنود الإنفاق، ورفع بنود الإيراد بنسبة معينة خلال السنتين اللتين تتبعان سنة مالية معينة (كما يعرض، للأسف، بعض الأحيان، ويقدم على أن هذا الإجراء يمثل الموازنة متوسطة الأجل!)، بل قيام وحدة الاقتصاد الكلي والسياسة المالية، بالتنسيق مع مختلف القطاعات الاقتصادية ذات العلاقة، والمشار إليها أعلاه، بالتنبؤ بمسارات عدد من المتغيرات الاقتصادية، ومن ثم تقدير التأثير على بنود الموازنة خلال ثلاث سنوات قادمة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى قدرات فنية وإحصائية لا بد من توفيرها.

ثانياً: في الموازنات التي تعتمد، بشكل كبير، على الإيرادات النفطية، من المهم تثبيت سعر معين لبرميل النفط خلال السنوات الثلاث المقبلة، بحيث لا تتأثر الموازنة متوسطة الأجل بتقلبات أسعار النفط. وأن تحدد النفقات تبعاً للإيرادات النفطية وغير النفطية Revenues Oriented Budget.

ثالثاً: أن تتبع منهج القواعد المالية Fiscal Rules. وتنقسم هذه القواعد الى ثلاث: قواعد مرتبطة بالنفقات، وبالإيرادات، وبرصيد الموازنة، والدين العام، بحيث يتم وضع سقوف عليا لقواعد النفقات، وتعظيم سقوف الإيرادات، وسقف للدين العام يتصف بالاستدامة (أي إمكانية إطفاء الدين في الأجل المحدد، ومن دون التأثير السلبي على معدل النمو الحقيقي). رابعاً: أن تقدّر الموازنة متوسطة الأجل: الرصيد المالي، والرصيد الهيكلي Structural، والرصيد المرتبط بالتقلبات الاقتصادية Cyclical (تأثير الدورة الاقتصادية على قيمة الرصيد)، باستخدام الأساليب الفنية ذات العلاقة وغير المرتبطة بأدوات المحاسبة الحكومية، التي تستخدم في تقدير الرصيد المالي (من دون استبعاد مدفوعات الدين)، والأساسي Primary (بعد استبعاد مدفوعات الدين)، كما أن الموازنات المتوسطة الأجل تهتم أيضاً بالرصيد المالي غير النفطي، في حالة البلدان النفطية، لقياس أثر السياسة المالية بشكل أدقّ.

خامساً: تعرض الموازنة العامة للدولة على السلطات التنفيذية، والتشريعية، لإقرارها من خلال عرض وتحليل اقتصادي كلي متخصص، وليس عرضاً محاسبياً حكومياً يهتم بالتغيرات السنوية ببنود الإنفاق والإيراد مطعّماً بعدد من إحصاءات الإجماليات الاقتصادية الكلية. وذلك لأهمية تبرير القيم التقديرية (المالية) للموازنة على أسس التطورات الاقتصادية لكل الأنشطة، بالإضافة إلى تطورات الاقتصاد الدولي.

سادساً: تهتم الوحدة بموضوع رفع كفاءة بنود الإنفاق المختلفة: الجارية، والرأسمالية، من خلال تطبيق ما ورد في الأدلّة الدولية المعتمدة في مجال هذا النوع من الكفاءة، وذلك لضمان الجدوى الاقتصادية للإنفاق.

سابعاً: تقوم الوحدة بإصدار كتيب سنوي يعرف باسم «موازنة المواطن» لتعريف الناس، بأسلوب مبسط، لغير المتخصصين، يوضح أهم معالم الموازنة، والأهميات النسبية لبنودها، والمستفيدين الرئيسيين من الموازنة، وتأثيرها على نمو الاقتصاد، ومساهمتها في تحسين توزيع الدخل لمصلحة فئات الدخل المنخفض، والمتوسط، وغيرها من الاهتمامات المرتبطة بالحياة اليومية للمواطن.

أخيراً، وليس آخراً، يحتاج تأسيس و/ أو تعزيز الوحدة إلى قناعة أساسية، لمتخذي القرارات، بأهمية أن تكون الموازنة العامة للدولة جزءاً لا يتجزأ من الإدارة الاقتصادية الكلية للبلد المعني، وأن تعمل بالتنسيق مع المظلة المسؤولة عن إدارة الاقتصاد الكلي (من المهم إنشاؤها على أسس مهنية في حالة عدم وجودها)، من خلال مكتب وزير المالية الذي تتبعه الإدارة، ولا يمكن أن تعمل الوحدة بكفاءة من دون قدرات فنية محلية ودولية مشهود لها بالكفاءة، وقناعة حقيقية بدورها الاقتصادي.

back to top