لحظة ليز ترَس في اليابان؟

نشر في 29-11-2022
آخر تحديث 28-11-2022 | 19:55
إن بقاء اليابان على مسار السياسة الحالية المتمثل في الإبقاء على أسعار الفائدة قريبة من الصفر وإصدار مزيد من الديون لن يؤدي إلا إلى زيادة تكاليف ضبط الأوضاع المالية الحتمي في النهاية، ونظراً للاتجاهات الديموغرافية المعاكسة في اليابان، فسيكون العبء الملقى على عاتق أجيال المستقبل أثقل.
 بروجيكت سنديكيت تحولت الميزانية المصغرة الكارثية التي أقرتها رئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز ترَس، والتي تسببت في انهيار الجنيه الإسترليني وإنهاء فترة ولايتها بعد 44 يوماً فقط، إلى قصة تحذيرية لصناع السياسات في مختلف أنحاء العالَم في مناقشاتهم حول كيفية تحفيز النمو الاقتصادي ومعالجة التضخم المرتفع، لكن بعض القادة الوطنيين كما هي الحال في اليابان لم ينتبهوا إلى التحذير.

كانت السِمة الرئيسة للخطة الاقتصادية التي لفقتها ليز ترَس ووزير الخزانة السابق كواسي كوارتنغ متمثلة في خفض ضريبي غير ممول بقيمة 45 مليار جنيه إسترليني (53 مليار دولار) لمصلحة الأثرياء، ولم يكن لهذا الضرب من التحفيز المالي أي معنى وسط أسوأ موجة تضخمية منذ عام 1980، وعلى هذا فقد سجل الجنيه انخفاضا شديدا وارتفعت أسعار الفائدة الطويلة الأجل إلى عنان السماء إلى أن لم يعد لدى بنك إنكلترا أي اختيار غير التدخل لحماية صناديق معاشات التقاعد، وفي نهاية المطاف، رحلت ليز ترَس ليحل محلها رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك، الذي يخطط لتقديم زيادات ضريبية لسد الفجوة المالية التي أحدثها اقتصاد ترَس.

على هذه الخلفية، وافقت حكومة رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا هذا الشهر على حزمة إنفاق بقيمة 29.1 تريليون ين ياباني (205 مليارات دولار)، وأغلب هذه التدابير، التي تهدف إلى تخفيف آلام التضخم المرتفع، سَتُمَوّل عن طريق إصدار سندات حكومية جديدة، ليصل إجمالي الإصدارات لهذه السنة المالية إلى 62.4 تريليون ين ما يعادل 11.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ونحو 37 في المئة من الميزانية السنوية، ورغم أن هذا يشكل تحسنا مقارنة بميزانية 2020، التي اعتمد 73.5 في المئة منها على الاقتراض الجديد، فإن الإنفاق المتزايد من شأنه أن يدفع مستويات الدين المرتفعة بالفعل في اليابان إلى مزيد من الارتفاع، والآن من المتوقع أن يتجاوز الدين الحكومي 1.4 كوادريليون ين، أو 250 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

بكل المقاييس، يُعَد المسار المالي الحالي في اليابان إدارة عجز أكبر وتكديس مزيد ومزيد من الديون غير قابل للاستدامة، وعند مرحلة ما قد لا تتقبل الأسواق السندات اليابانية كأصل آمن، مما يؤدي إلى عمليات بيع مماثلة لتلك التي تسببت مؤخرا في انهيار الجنيه الإسترليني، ولكن حتى الآن، لم يشعل إنفاق كيشيدا الإضافي شرارة ردة الفعل العنيفة التي واجهتها ميزانية ترَس المصغرة، حتى برغم أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة أقل من نصف نظيرتها في اليابان.

أحد التفسيرات الشائعة لقدرة اليابان على تكديس الديون دون التسبب في ارتفاع تكاليف الاقتراض هو أن أغلب سنداتها الحكومية يحملها مستثمرون محليون ومؤسسات مالية محلية لم تشكك قَط في قدرة الدولة على سداد ديونها ومن غير المرجح أن تفعل في المستقبل، ويتلخص تفسير آخر في أن المستثمرين يتوقعون من بنك اليابان أن يدعم سوق السندات المحلية كلما حدثت عمليات بيع ضخمة، كما حدث عندما استهدف المضاربون الديون اليابانية في الماضي.

يظل لدينا تفسير آخر أكثر التباسا، وهو أن صافي ديون اليابان أصغر مما يبدو في حقيقة الأمر لأن قسما كبيرا من هذه الديون مملوك للحكومة ذاتها، لكن المشتري الأكبر لسندات الحكومة اليابانية هو صندوق استثمار معاشات التقاعد الحكومي، وتسييله للدفع للدائنين من شأنه أن يزعزع استقرار نظام معاشات التقاعد بالكامل.

ثم هناك أولئك الذين يزعمون أن اليابان من الممكن أن ترفع الضرائب في حال حدوث أزمة مالية، فمن خلال زيادة ضريبة القيمة المضافة (VAT) إلى 25 في المئة، كما تزعم هذه الحجة، يصبح بوسع اليابان توليد 33 تريليون ين من عائدات الضريبة الإضافية، لأن عائدات ضريبة القيمة المضافة بمعدلها الحالي (10 في المئة) تبلغ نحو 22 تريليون ين، وبافتراض أن هذه الزيادات الضريبية المقترحة لن تؤدي إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي الياباني، فإن الدخل الإضافي سيظل كافياً لتغطية نصف الفجوة المالية الحالية فقط. علاوة على ذلك، من المرجح أن تضطر اليابان إلى زيادة ضريبة القيمة المضافة على أي حال لتغطية تكاليف الضمان الاجتماعي، ومعاشات التقاعد، والرعاية الصحية لسكانها الذين تغلب عليهم الشيخوخة بسرعة.



قَدَّمَ بنك اليابان نظام «التحكم في منحنى العائد» في عام 2016، فحدد سقفاً لسعر الفائدة على سندات السنوات العشر عند مستوى 0.25 في المئة، وإذا اقترب العائد من هذا المستوى، فسيشتري بنك اليابان سندات طويلة الأجل، ظاهريا لتحفيز النمو ومعالجة التضخم. لكن بنك اليابان واجه ضغوطاً متجددة من جانب أولئك الذين يزعمون أن هذه السياسة قد لا تكون فَعّالة أو حتى ضارة في وقت حيث تنخفض قيمة الين بسرعة وترتفع عائدات السندات الحكومة بسرعة في مختلف أنحاء العالم، الواقع أن سعر صرف الين مقابل الدولار انخفض إلى 150 يناً من نحو 115 منذ بداية العام، وهذا يساهم في الزيادات الحادة في أسعار الواردات التي أضرت بالمستهلكين والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ولكن حتى الآن، رفض بنك اليابان زيادة أسعار الفائدة أو الخروج من سياسة التحكم في منحنى العائد.

منذ أطلق بنك اليابان حملة التيسير الكمي والنوعي الضخمة في أبريل 2013، ارتفعت حصته من السندات الحكومية اليابانية غير المسددة إلى النصف تقريباً، وانتقد القائمون على البنوك المركزية من ذوي الفِكر التقليدي، الذين تدرب كثيرون منهم قبل فترة طويلة من عصر التيسير الكمي والنوعي، بنك اليابان لتمكينه الحكومة من إدارة عجز غير مستدام في الميزانية واستحثاث مخاطر أخلاقية.

ولكن يبدو أن بنك اليابان عازم على الإبقاء على أسعار الفائدة قريبة من الصِفر، على الأقل في الوقت الحالي، مستشهداً بتعافي الاقتصاد الأبطأ من المتوقع من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19)، والتضخم الياباني، عند مستوى 3.7 في المئة، أقل كثيراً أيضاً من حاله في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 8 في المئة إلى 10 في المئة على أساس سنوي، ورغم أن التضخم الحالي أعلى من المستوى الذي يستهدفه بنك اليابان (2 في المئة)، فإن السلطات تتوقع انخفاضه في العام المقبل.

لكن يتعين على صناع السياسات أن يستخدموا التضخم كفرصة للتخلص من العقلية الانكماشية التي لازمت اقتصاد اليابان لأكثر من عقدين من الزمن قبل أن تتحول إلى تشديد قيود السياسة النقدية، ومن المؤكد أن الخروج من السياسة النقدية الشديدة التساهل التي ينتهجها بنك اليابان منذ فترة طويلة لن يتأتى دون مخاطر، فمن المرجح أن ترتفع مدفوعات الفائدة، وكما زعمت مؤخرا، قد تؤدي زيادات أسعار الفائدة السريعة إلى إعسار فني وما يسمى رسوم سك العملة السلبية، وهذا يتطلب أن تزود الحكومة البنك المركزي بالمعونات.

مع ذلك، كلما خرجت اليابان مبكراً من سياسة التحكم في منحنى العائد، كان ذلك أفضل، ولا شك أن تشديد قيود السياسة النقدية من شأنه أن يتسبب في بعض الآلام الاقتصادية، لكن البقاء على مسار السياسة الحالية المتمثل في الإبقاء على أسعار الفائدة قريبة من الصِفر وإصدار مزيد من الديون لن يؤدي إلا إلى زيادة تكاليف ضبط الأوضاع المالية الحتمي في النهاية، ونظرا للاتجاهات الديموغرافية المعاكسة في اليابان، فسيكون العبء الملقى على عاتق أجيال المستقبل أثقل.

على صناع السياسات في اليابان أن يستغلوا فرصة التضخم للتخلص من العقلية الانكماشية الملازمة لاقتصادها منذ عقدين

* تاكاتوشي إيتو

* نائب مساعد وزير المالية في اليابان سابقاً، وأستاذ في كلية الشؤون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا وكبير أساتذة المعهد الوطني للدراسات السياسية العليا في طوكيو.

«بروجيكت سنديكيت، 2022» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top