مونديال بنكهة عربية*

نشر في 28-11-2022
آخر تحديث 27-11-2022 | 19:58
 خولة مطر الشوارع خاوية إلا من بعض المارة والعربات المسرعة وربما القطط والكلاب التي استباحت الأرصفة وأسوار المباني والعربات المصطفة في لحظات قد تبدو غريبة بالنسبة لها عندما اختفى الناس من الشوارع، حتى تلك التي عادة ما تكون مكتظة طوال النهار والليل في مدن الملايين، اكتظت المقاهي والمطاعم وحتى محلات البقالة الصغيرة بالجماهير الجالسة أو الواقفة متسمرة أمام شاشات التلفزة، إنه المونديال ولا صوت يعلو على صوت «الكورة» والمعلقين بكل اللغات والهجات وما بينهما صرخات مدوية «هايييييييي» من مشجعي هذا الفريق أو ذاك.

المونديال هو الحدث الأكبر والأهم في كل بقاع الكون على تفاوت شعبية هذه الرياضة بين بلد وآخر رغم أن مراكز الرصد والبحث الرياضية قد سجلت كرة القدم الرياضة رقم واحد بالنسبة لعدد متابعيها الذي يصل إلى أربعة مليارات متابع، وتأتي بعدها كرة السلة، ثم التنس، ثم ألعاب القوى و... و...، وقد تكون هي الرياضة الأكثر قربا من كل الناس على اختلاف مستواهم الاجتماعي والمالي وحتى الثقافي، فهي في الأندية الراقية والأحياء الفقيرة بأزقتها المتربة عندما لا يجد الفقراء ثمن كرة القدم كانوا يصنعون كرة من بقايا الجوارب حتى عرفت ب«كرة الجوارب».

كأس العالم لهذا العام يأتي بنكهة عربية، وهي المرة الأولى، وهو كذلك أكثر قربا لنا بكل تفاصيله، ولكن ما لم يتوقعه الكثيرون أنه سيتحول إلى شكل من أشكال الاستفتاء بين الشعوب العربية «الكروية» على العلاقات والتطبيع مع إسرائيل، هذه الجماهير التي في مجملها شابة من الجنسين ورياضية لا تحمل توجهات سياسية معارضة ولا يسارية أو شيوعية أو أي من الصفات التي يوصم بها الفرد عندما يعبر عن رفضه لذاك الكيان الذي يعد، حسب الأمم المتحدة ومنظماتها وحتى منظمات حقوق الإنسان الأخرى مثل أمنستي، آخر احتلال ونظام فصل عنصري على وجه الأرض.

كيف يتحول حدث رياضي بجدارة محمل بكثير من المظاهر والبرامج الترفيهية والاستهلاكيه كحال كل الرياضات وحتى المناسبات الأخرى ومنها الدينية أيضا، إلى مساحة أو فضاء يعبر فيها المواطن العربي من مختلف الخلفيات والبلدات والمدن عن حجم رفضه الداخلي لمثل هذا الكيان؟ وكيف توحد الجميع دون أن يكون هناك «مؤامرة خارجية» أو تحريك من المعارضات الداخلية أو حتى قائد للأوركسترا المعارضة التي لم تكتف برفض التعامل والحديث مع محطات التلفزة الإسرائيلية بل تعدت ذلك لترفع علم فلسطين ليصبح هو وفلسطين الأبطال الحقيقيين للمونديال... سجل الإسرائيليون أنفسهم كم الرفض الذي واجهوه من شباب وشابات من جنسيات مختلفة لا من فلسطينيين أو من الدول العربية القليلة التي لم تلتحق بركب مواكب التطبيع والتطبيل لها!



تحدثوا وكتبوا في صحفهم بأنهم مرفوضون من الجماهير العربية، وأنهم بعد توقيع أربع اتفاقيات تطبيع مع أربع دول عربية لم يتوقعوا ردة الفعل هذه حتى من الجماهير نفسها لهذه البلدان العربية الأربعة، يقول أحد الصحافيين الإسرائيليين بحسرة وحشرجة يبدو أننا طبعنا مع الحكومات لكننا لم نستطع أن نصل إلى الشعوب رغم ما قيل ولا يزال من بعض المعنيين والمسؤولين والمطبلين في الدول الأربع، ورغم الوفود التي تبادلت الزيارات والوزراء وبعض السفهاء المتعطشين لأن يكونوا في الصورة أو أن يقتنصوا منصب وزير أو وزيرة أو ربما حتى نائب أو نائبة!

كل هذه الضوضاء التي عاشها بعض إعلامنا لأشهر انطفأت أو ربما أخفيت في دهاليزهم المظلمة عندما اشتعلت شبكات التواصل بمشاهد لشاب يرفض الحديث للمذيع الإسرائيلي أو آخر يطلب منه النزول من التاكسي أو بعض المشجعين الحاملين أعلام فلسطين وهم يلوحون من خلف المراسل الرياضي الذي يتخلى عن تغطية المباريات وينغمس في محاولة لإفهام جمهوره بأنه يواجه صعوبات عدة في التغطية بل في التجول ودخول المطاعم والمقاهي والاحتكاك بالجماهير.

هذه المشاهد إذا لم تفتح حوارا مطولا في إعلامنا فهي أمر معروف الأسباب لأنه لا إعلام حقيقيا وحرا في بلداننا إلا ما ندر، لكنها بالطبع قد فتحت الأعين والقلوب مجدداً وأعادت الصوت لأولئك الذين اتهموا لسنين وسنين بأنهم «قومجية» أو «ناصريون» أو «يساريون» أو «شيوعيون» وهي في مجملها ليست بالصفات المسيئة إذا ما أخذت في إطار ونطاق حق الإنسان في أن يتبنى رأياً أو فكراً سياسياً كما هي الحال في المجتمعات المنفتحة التي تمارس بعضاً من أشكال الاعتراف بالآخر وتقبله إلا من رفع السلاح واستباح الدماء.

مونديال قطر انتصار كبير ليس للعرب في إقامة مثل هذا الحدث الضخم بل انتصار لصوت العرب وكل أنصار الحرية والكرامة في العالم.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

back to top