عطية الظفيري: قصص تشيخوف متفردة ونابضة بالحياة

ترجم 9 قصص قصيرة من نتاج الأديب الروسي الشهير

نشر في 03-04-2024
آخر تحديث 02-04-2024 | 15:39
الباحث والمترجم عطية بن كريم الظفيري
الباحث والمترجم عطية بن كريم الظفيري
ينتقي الباحث والمترجم عطية الظفيري مجموعة قصص جميلة من الأدب الروسي، خلال إصداره الجديد «أنطون تشيخوف: قصص مختارة».

يقدم الباحث والمترجم عطية بن كريم الظفيري، في إصداره الجديد «أنطون تشيخوف: قصص مختارة»، نحو 9 قصص مشهورة من الأدب الروسي، مستشهداً بآراء كبار الكتاب حول نتاج الأديب الروسي تشيخوف.

في هذا الإطار، يقول الظفيري عن إصداره: «يعد الأديب الروسي أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860 - 1904) كاتباً مسرحياً وقصصياً، من أعظم كتاب القصة القصيرة في كل العصور، إذ تحظى كتاباته بتقدير كبير من الكتاب والنقاد والقراء، وبرزت كتاباته عندما كان طالباً في كلية الطب بجامعة موسكو، واستمر في الكتابة، واستمر أيضاً في مهنة الطب، وكان يقول: إن الطب زوجتي الشرعية والأدب عشيقتي».


غلاف الإصدار غلاف الإصدار

وحول أثر الطب في الأدب، أوضح: «كان لمهنته أثر كبير في عمله أديباً، لأنها أتاحت له فرصة الاختلاط بالناس والاحتكاك بمختلف طبقات الشعب والاطلاع على أحوالهم الاجتماعية وسلوكهم، وحين مارس مهنة الطب كان يعالج الفقراء مجاناً، فقد عانى هو نفسه في شبابه من شظف العيش والفقر والعوز، وحين انتشرت المجاعة في إحدى المقاطعات الروسية عام 1892 تطوع لمساعدة المنكوبين، وأسس جمعية لجمع التبرعات لهم، وكذلك حين انتشر وباء الكوليرا لعب دوراً مهماً في تأسيس جمعية طبية تطوعية، أخذت على عاتقها مهمتي التوعية والعلاج للفلاحين المنتشرين في قرى كثيرة».

نابض بالحياة

وحول التكنيك الذي اتبعه تشيخوف في كتابة القصة، قال الظفيري: «أسس تشيخوف ركائز القصة القصيرة الحديثة، ووجهها إلى تصوير موقف عابر نابض بالحياة من دون الاهتمام بالحبكة، وكانت القصة القصيرة قبل تشيخوف تعد صورة مصغرة من القصة الطويلة (الرواية)، وكان الغرض من كتابتها تلبية حاجة من لا يمكنهم وقتهم من قراءة القصة الطويلة، ولم يكن يُنظر إلى القصة القصيرة على أنها فن قائم بذاته، ويرى المترجم محمد التيتي أن تشيخوف أول من نادى باستقلال القصة القصيرة، وابتدع فكرة اللحظة العابرة، وأخذت قصصه ترسم صورة واحدة من صور الحياة أو شخصية تحت تأثير موقف معين، مما يجعل كاتب القصة القصيرة أشبه بالمصور الفوتوغرافي، وأخذ الكتاب بعده يقتفون أثره».

وأورد رأياً آخر في كتابات تشيخوف، حيث يسلط الضوء على تساؤل للأديب الروسي فلاديمير كورلنكو عن الكوميديا السوداء في كتابات تشيخوف: «هل صحيح أن في الضحك الروسي ثمة شيئا مشؤوما؟ أمن المعقول أن رد فعل الفكاهة الأصيلة على الواقع الروسي - إذا استخدمنا مصطلحات الكيميائيين - يترك حتماً رواسب سامة تدمر بقوة متزايدة ذلك الوعاء الذي يجري فيه، أي روح الكاتب؟».

ويضيف: «كان تشيخوف يرى أن دور الكاتب هو طرح الأسئلة، وليس الإجابة عنها، وكان يصر دائماً على أن مهمة الأديب الخلاق هي تصوير ما يراه في عالم واقعه بكل نزاهة وإخلاص، لذا كان أبطاله أناساً بسطاء يتحدثون في أمورهم اليومية من دون تصنع أو رياء، ويدفعون القارئ إلى مشاركتهم آلامهم وآمالهم، ويستثيرون عطفه لما تنطوي عليه حياتهم من مآس وكروب».

مصير الحياة

ويسلط الظفيري الضوء على ما كتبه الأديب الألماني توماس مان - الحائز جائزة نوبل للآداب - فلسفة تشيخوف أثناء الكتابة: «يتحتم على الإنسان أن يواجه حقيقة فشله في صراعه مع الحياة، إلا أن ضميره المتصل بعالم الروح لن يتلاءم البتة مع طبيعته وواقعه وظروفه الاجتماعية، ومن ثم كان لا بد لتلك النفوس الكبيرة التي تشعر بمسؤوليتها الضخمة نحو الحياة ومصير الإنسان أن تعاني دائماً من أرق وليد النبل».

ويشير الظفيري إلى فرادة قصص الأديب الروسي، حيث كتبت في فترة سابقة لكنها تتناسب مع الحاضر: «رغم أن هذه القصص قد كتبت قبل قرن من الزمان، فإنها تتناول قضايا مجتمعنا الحاضر، فهي تظل نابضة بالحيوية، تغوص بأعماق النفس البشرية، ومتميزة بسمة الكوميديا السوداء في بعض الأحيان».

وانتقى الظفيري مجموعة قصص قصيرة للأديب الروسي الشهير، منها «موت موظف»، وتقول تفاصيلها: في ليلة جميلة كان إيفان ديمتريفيتش تشرفياكوف الموظف النبيل يجلس في الصف الثاني من مقاعد الصالة، متمتعاً عبر المنظار الخاص بالأوبرا بمشاهدة أجراس كورنيفيل. وهو يشاهد العرض شعر بفرح عارم ورأى نفسه أسعد إنسان، وفجأة... - وفجأة أصبح تعبيراً مبتذلاً، ولكن الكتاب يستخدمونه، فالحياة مليئة بالمفاجآت - وفجأة تجعد وجهه، وزاغ بصره، واحتبست أنفاسه... وأبعد وجهه عن منظار الأوبرا، وانحنى على مقعده و... أتشوو! عطس الرجل، ولكل إنسان الحق في أن يعطس في أي مكان، إذ يعطس الفلاحون، ورجال الشرطة، وحتى المستشارون الخاصون كل إنسان يعطس، الكل يعطس، ولم يشعر تشرفياكوف بالحرج، وأخرج من جيبه المنديل ومسح على أنفه، وكأي إنسان مهذب نظر حوله ليرى ما إذا كان عطسه سبّب إزعاجاً لأحد، ومن ثمَّ شعر بالحرج حين رأى رجلاً عجوزاً جالساً أمامه في الصف الأول يمسح بعناية صلعته ورقبته بقفازه، ويتمتم بشيء ما، وعرف تشرفياكوف أن العجوز هو الجنرال بيرز خالوف من وزارة المواصلات.

وتذكر تشرفياكوف رذاذ عطسته على رأس الرجل، وقال لنفسه: صحيح أنه ليس رئيسي، ولكن ذلك كان أمراً محرجاً، لذا يجب أن أعتذر منه. ومال تشرفياكوف بجسمه إلى الأمام، وتنحنح وهمس بأذن الجنرال:

- أستميحكم قبول عُذري يا صاحب السعادة عن العطسة.. لم أقصد ذلك.

- لا تذكر ذلك، لا شيء.

- أرجوك سامحني. أنا... لم أكن متعمداً.

- هل تصمت، بحق السماء دعني أصغي.

... وشعر تشرفياكوف وكأن شيئاً ما يمزق جسمه من الداخل، في هذه الأثناء تراجع إلى الباب وهو لا يسمع أو يرى شيئاً، ومن ثم خرج إلى الشارع للتجوال فيه، واتجه تلقائياً إلى منزله واستلقى على الأريكة وهو يرتدي ملابسه الرسمية... ومات.

تنهيدة يائسة

ويستشهد الظفيري خلال إصداره بما كتبه الأديب الروسي الشهير مكسيم غوركي عن كتابات تشيخوف: في جميع قصص تشيخوف الفكاهية، تسمع التنهيدة الرقيقة العميقة من قلب إنساني نقي، تنهيدة يائسة تنم عن الشفقة على أناس ضعاف عاجزين عن الحفاظ على احترامهم لذاتهم، ويستسلمون دون مقاومة للقوة الغاشمة يعيشون مثل العبيد، ولا يؤمنون بأي شيء سوى ضرورة أن يملؤوا بطونهم قدر الإمكان، ولا يشعرون بأي شيء سوى الخوف من أن يضربهم أناس أقوياء وقحون. لم يفهم أحد قط الطبيعة المأساوية لتفاهات الحياة بهذا القدر من الوضوح والعمق كما فهمها تشيخوف، ولم يسبق لكاتب استطاع أن يرسم للبشر مثل هذه الصورة الصادقة القاسية لكل ما كان مخزياً ومثيراً للشفقة في الفوضى المدمرة لحياة الطبقة الوسطى.

ويؤكد غوركي أن قراءة أعمال تشيخوف تجعل المرء يشعر كما لو كان في يوم حزين في أواخر الخريف، عندما يكون الهواء شفافاً، وتبرز أشجار عارية شامخة تعانق عنان السماء، ومنازل مكتظة، وأناس ضجرون كئيبون كل شيء غريب جداً، تلفه العزلة والجمود والعجز، والآفاق الزرق البعيدة الخاوية تمتزج بسماء باهتة، تنفث برداً زمهريراً على أرض مغطاة بالوحل شبه المتجمد، ولكن عقل الكاتب مثل شمس الخريف... تشرق لتنير الطرق المأهولة، والشوارع المتعرجة، والمنازل الضيقة القذرة، حيث يمضي الأشخاص الصغار المثيرون للشفقة حياتهم في الملل والكسل، ويملؤون مساكنهم بصخب عبثي».

«الحرباء» تروي حكاية مفتش الشرطة في السوق

في قصة أخرى بعنوان «الحرباء»، يقص تشيخوف حكاية تعامل مفتش الشرطة مع حادث في السوق بالكثير من السخرية والرمزية، ومن تفاصيل القصة: عبر مفتش الشرطة أوتشوميلوف السوق مرتدياً معطفاً كبيراً جديداً، ويحمل في يده حزمة، وبعده سار شرطي ذو شعر أحمر يحمل منخلاً مملوءاً حتى حوافه بحبات عنب الثعلب المصادرة، والصمت المطبق يسود في كل مكان... ولا يوجد أحد في السوق، تلقي أبواب المتاجر الصغيرة والحانات المفتوحة نظرات كثيبة على العالم، مثل الكثير من الأفواه الجائعة، ولا يقف بالقرب منها حتى المتسولون. وفجأةً يصل إلى أذني أوتشوميلوف صوت: إذن، ستعض، أيها اللئيم! لا تتركه العض غير مسموح به هذه الأيام... أمسكه! آه!

وسمع أوتشوميلوف أنين كلب، ونظر في اتجاه الصوت، فرأى كلباً له ثلاث قوائم يخرج مسرعاً من مخزن أخشاب تابع للتاجر بيتشوغين، ويطارده رجل يرتدي قميصاً متصلباً بالنشا وصدرية مفتوحة الأزرار، وجسمه كله مائل إلى الأمام، تعثر الرجل فأمسك بإحدى قائمتي الكلب الخلفيتين، ويتجدد الأنين، وصيحة مرة أخرى: لا تتركه! في هذه الأثناء خرجت الوجوه النعسانة من المتاجر، وفي وقت قصير تجمع حشد حول مخزن الأخشاب، بدا كأنه قد خرج من قاع الأرض.

قال الشرطي:

- يبدو كأنه اضطراب عام يا صاحب السعادة!

استدار أوتشوميلوف وسار نحو الحشد، وأمام بوابة المخزن مباشرة رأى الرجل صاحب الصدرية المفتوحة المذكور آنفا، يقف ويده اليمنى مرفوعة، عارضاً إصبعه النازف دماً للحشد. بدا وكأنه مكتوب على وجهه المخمور هذه الكلمات: سأنال منك أيها الشيطان، وكان الإصبع نفسه يبدو وكأنه علامة النصر.

back to top