كارثة تعليمنا مدمرة وخسائرها فادحة وضحاياها كثر (1-5)

محاولات إصلاحه جعلت أكثر المهتمين بالشأن التربوي متشائمين

نشر في 27-11-2022
آخر تحديث 27-11-2022 | 01:11
في النظام البيئي لا تعدُّ الكوارث الطبيعية اختلالاً لنظام يؤدي إلى الدمار والهدم، فللكوارث وجهٌ جميلٌ لا تستطيع رؤيته عيون الكائنات التي لا ترى أبعد من أنفها، ولا تنشغل بغير قوت يومها، فكثير مما نسميه كوارث هو في حقيقته إعادة للتوازن المختل في البيئة الطبيعية، ولنا في البراكين خير شاهد، فما تنفثه من أدخنة ورماد يسهم في خفض درجات الحرارة في الأرض، وما يسيل منها من حممٍ تحرق الأخضر واليابس ينتج عنه أرضٌ خصبة تخلق مجالاً حيوياً للكائنات، كما أن التقاء تلك الحمم بمياه البحر يُوسِّعُ مساحة الأرض، خالقة بذلك مجالاً رحباً لنمو حياةٍ جديدة. نعم إنها كارثة مدمرة، وخسائرها فادحة، وضحاياها كثر، لكن لها وجهاً آخر لا ينبغي أن نهمله، وجهاً يجعلها نعمة في صورة النقمة، وهذا بالضبط ما نحتاج إليه في تعليمنا، وما ينبغي أن يحدث في تربيتنا، وما هذا الاستدعاء للكارثة سوى أملٍ وحيدٍ تبقَّى بعد خيباتٍ راكمتها محاولات إصلاح التعليم في بلدنا الصغير الغني، حتى بات أكثر المهتمين بالشأن التربوي متشائمين من نجاعة أيِّ مشروعٍ جديدٍ يُطرح تحت عنوان الإصلاح. وتذكرني غرابة هذه الفكرة بما اعتراني من غرابة حين وقفت أمام متحف العلم والفن في سنغافورة، فقد خُطَّت على المدخل عبارةٌ لرئيس غرفة التجارة والصناعة السنغافورية، وليس هذا بغريب، فسنغافورة وضعت نفسها على الخريطة بما أنشأته من بنية تجارية وصناعية صلبة عوَّضت هذا البلد الصغير عمَّا يفقده من موارد طبيعية، لذا ليس غريباً أن يكون رئيس تلك الغرفة من الشخصيات التي يُخَطُّ قولها أمام متحف علمي فني ذي طبيعة تربوية، بل الغريب أن صاحب العبارة لم يعرَّف بمنصبه الوظيفي، بل عُرِّف بشغفه الجمالي، فشُفِعَ اسمه بلقب «شاعر»، ليكون الخيال الخلاق للشاعر أوَّل ما يرحب بزائر متحف العلم والفن، وما العلم والفن سوى أبناء شرعيين للخيال المحلِّق المتمرّد على بؤس الواقع وجموده، ومن هذا المنطلق أسِّس قسمٌ في المتحف عُنْوِن بـ «عالم المستقبل: عندما يلتقي الفن بالعلم»، وفيه يخوض الأطفال تجربة تشكيل المستقبل وفق خيالٍ تتحداه المشكلات لوضع خطط يواجهون بها التبعات، ويتهيَّؤون بها للإسهام في خلق ظروف حياتهم بدلاً من أن يكونوا مجرَّد منفعلين بها. وبين التجربة الكويتية والتجربة السنغافورية أجد نفسي أمام سؤال عن اليأس الذي يعتريني حتى أستدعي كارثة ترحمنا من تعليمنا، وقد أفضى بي التفكير بيأسي إلى ماضٍ قريبٍ عايشته وأود مشاركته معكم لعل فيه ما يبرر غرابة ما افتتحت به الدراسة... وفيما يلي تفاصيل الحلقة الأولى:
بعد أن اطلعت على كثير من الخطط الإصلاحية للنظام التعليمي في الكويت؛ وشاركت في كثير منها، ما عاد يعتريني شكٌّ في أننا من أفضل شعوب العالم تشخيصاً لواقعهم، ومن أكثرهم قدرة على ملء الأدراج بخطط رائعة لكنها محرومة من نعمة التنفيذ، فنحن بذلك كالعفيف تجتاحه الرغبة في الوصال وتمنعه الموانع من تحقيقه.

مشروع المسؤولية التضامنية في النظام التربوي الكويتي

لقد تبنَّت الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، مشروع «المسؤولية التضامنية في النظام التربوي الكويتي» أحد تجليات تلك الحال الغريبة، وسعت أن تقدِّم به إجابة عن سؤالين ما انفكّا يلحّان على عقول المهتمين والمهمومين بالشأن التربوي: «من المسؤول عن تردي التعليم في الكويت؟ ومن يعوق مشاريع إصلاح النظام التعليمي؟».

ولم يكن من السهل تقديم إجاباتٍ علميةٍ رصينةٍ عن هذين السؤالين، فالنظام التعليمي ذو طبيعة شديدة التعقيد، فهو يتداخل مع جميع الظروف السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والأسرية في الدولة، لذا فإن هدف المشروع لا يتحقق إلا بدراسةٍ علميةٍ تتجاوز حدود وزارة التربية، وتبحر في أفق تلك العوامل المعقدة، لتؤكد مفهوم الشراكة المجتمعية والمسؤولية التضامنية التي تتحملها الدولة بسلطاتها، والمجتمع بمؤسساته، والأسرة بأفرادها.

وعليه جاءت الدراسة في محاور بدأت بتحليل مساحة الخطاب التربوي في الخطابات الأميرية، فهذه الخطابات صادرة عن رئيس السلطات الثلاث في الدولة، ومن المتوقع أن تنعكس مضامينها في سلوك تلك السلطات، وقد ظهر من تحليل الخطابات الأميرية أن قضية التعليم ذات مكانة مركزية، لما لها من دور حاسم في تحقيق آمال الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد- رحمه الله- بخلق دولة عصرية حديثة قوامها العلم والمعرفة، لأن ذلك لا يتأتَّى إلا بإحداث نقلةٍ نوعيةٍ وجذريَّة في النظام التعليمي.

مقترحات يتيمة

ثم انتقلت الدراسة إلى قاعة عبدالله السالم، وما يجاورها من قاعات تجتمع فيها لجان السلطة التشريعية، وتعبِّر عن رأي ممثلي الشعب، فحُلِّلت خطاباتهم، ووضعت مقترحاتهم وتشريعاتهم فوق منضدة التشريح، فوجدت بعض المقترحات اليتيمة الصادرة عن إحساسٍ عميقٍ بالمسؤولية الوطنية، لكن حال تلك المقترحات كحال الأيتام في موائد اللئام، فأغلبية المقترحات والتشريعات لا تستند إلى أسس علمية تربوية رصينة، ولا تصدر عن رؤية تشريعية توفِّر سوراً من القوانين الحامية للنظام التربوي، ولا تسهم في تسهيل تحقيق أهداف التعليم، أما الشقُّ الرقابي من عمل النواب فهو مقصور على رقابة ضعيفة على أعمال وزارة التربية لا دور لها في إحداث تغيير حقيقي يعود بالنفع على النظام التعليمي، ومجموع العملين التشريعي والرقابي لا يتناغم مع الرغبة الأميرية التي تجلَّت في تحليل الخطابات السامية عموماً، وخطابات افتتاح أدوار الانعقاد خصوصاً.

• عوامل عدة أسهمت في خلق متعلّمٍ يعيش فراغاً فكرياً وجهلاً بدور المدرسة في حياته

• مشروع النظام التربوي الكويتي وجد بعض المقترحات اليتيمة في مجلس الأمة

وبعد ذلك وجّه الباحثون أنظارهم إلى وزارة التربية، الجهة المنفردة بالنظام التربوي تخطيطاً وتنفيذاً وتقييماً، وهنا سُلِّطَت الأدوات الكميّة والنوعية من مقابلات شخصية واستبانات لتقديم وصف علمي عميق لحال الوزارة على مستوى القيادات التربوية، والتواجيه الفنية، والإدارات المدرسية، والهيئة التعليمية، وأظهرت النتائج وجهاً مرعباً للمأساة، فعلى مستوى القيادات تجمَّعت كل الصلاحيات والقرارات الرئيسة وتركّزت بيد الوزير (ذلك المنصب غير المستقر)، ورأس تلك الصلاحيات آليات تعيين المناصب القيادية في الوزارة، التي لم تخضع لمعايير موضوعية، ويعمل الوزير في ظل صراعات صامتة بين قيادات وزارته كالقبطان يقود سفينة يتوزع طاقمها على أحزاب وجماعات لا ترى إلا مصالحها الضيقة، وفي هذا الوضع لا يصدر القرار التربوي وفق أسس تربوية واضحة ورؤية رسمية للدولة، فالمنطق السائد في صناعة القرارات هو منطق ردود الأفعال غير المدروسة، التي تخضع لرؤى الوزراء وطاقمهم القيادي المشتت بفعل الحروب الداخلية في الوزارة.

التوجيه الفني

أما جهاز التوجيه الفني ذو الدور الحساس المتغلغل في كل مفاصل العملية التعليمية؛ فقد أظهرت النتائج تقليدية دور هذا الجهاز، ونزوعه إلى فرض سلطته على المعلمين من دون إقناع، وممارسته دور المفتش الذي يتقصّى التطبيق الحرفي للتعليمات، من دون دعم لإبداعات المعلمين التي تُكبَت عادة بحجة مخالفتها للتعليمات الصادرة عنه، ويضاف إلى ذلك غياب مرجعيات واضحة لممارسة الموجه عمله، وعدم إلمام الموجهين باللوائح التنظيمية، وطغيان الجوانب الإدارية على الجوانب الفنية، ليظل الجهاز يعيش في حال من الغموض في دوره التقييمي لعمل المعلم نتيجة النزاع على ملف التقييم بين الجوانب الإدارية والجوانب الفنية.

وبالانتقال إلى المدارس، تقابلنا بعد الولوج إليها الإدارات المدرسية، التي أظهرت نتائج الدراسة ضعفاً تعانيه في تصورها الإداري حول أدوارها وممارساتها اليومية، وعلاقاتها بالمعلمين والمتعلمين، وهذا ما ينعكس خارج أبواب الإدارة، وتحديداً في أقسام الهيئة التعليمية، حيث تسود بين المعلمين نظرة دونية عن دورهم المهني، ويعتقدون أن علاقاتهم غير صحية بالإدارات المدرسية والتواجيه الفنية، ويرون أنفسهم ضحايا الإخفاقات الإدارية، وحين الحديث عن تردي التعليم توجّه إليهم وحدهم مسؤولية كل إخفاق وفشل.



فراغ فكري

وتتجمع كل هذه العوامل لتسهم في خلق متعلّمٍ يعيش فراغاً فكرياً، وجهلاً بدور المدرسة في حياته، واتكاليّة مفرطة في علاقته بمعلميه وأسرته، مما يؤدي إلى ضعف شعوره بالمسؤولية عن تعلمه الذاتي، ويوهن دافعيته نحو التعلم، ويضاف إلى ذلك ما يعانيه كثير من المتعلمين من خلل في الانضباط السلوكي والأخلاقي، فصار الهمّ الوحيد لهم تحصيل الدرجات بأي وسيلة كانت، حتى لو كان ذلك بالتوسل بأدوات الغش أو الاعتماد على الواسطة لغض الطرف عن إخفاقاته وتحصيل درجات لا يستحقها، مما جعل المدرسة بيئة موبوءة بكثير من الظواهر السلبية التعليمية والاجتماعية.

• عمل النواب مقصور على رقابة ضعيفة على أعمال وزارة التربية

• للوالدين اتجاهات سلبية نحو المدرسة تنعكس غالباً على أبنائهما

وينتقل هوس تحصيل الدرجات إلى الأسرة التي تخلّت عن مسؤولياتها واعتمدت اعتماداً كبيراً على المدرسة في تربية الأبناء وتعليمهم ودعم تكوينهم لشخصياتهم المستقلة، وفي ظل ضعف علاقة المدرسة بالأسرة؛ أظهرت نتائج الدراسة اتجاهات سلبية لدى الوالدين تجاه المدرسة، وغالباً ما يعكس الوالدان تلك الاتجاهات أمام أبنائهم مما يفاقم مشكلة القطيعة بين دور المدرسة ودور الأسرة، وبهذا تتشتت الجهود، بل تتناقض فيما بينها، خالقة حالاً من الفشل في تحقيق تعليمٍ متميز يفي باحتياجات الفرد والمجتمع، ويُحبِط التطلعات المستقبلية التي عبّرت عنها الخطابات السامية التي افتُتِحَت الدراسة بتحليلها.

ولمَّا استوفت الدراسة محاورها، وانتهت إلى وصفٍ دقيقٍ لمشكلات النظام التربوي؛ وضع القائمون على الدراسة تصورات علمية لإصلاح التعليم، جاءت في صورة مقترحات إصلاحية عملية عامة شملت محاور الدراسة من القيادة السياسية والسلطة التشريعية والقيادات التربوية، والهيئات التوجيهية الفنية والإدارية والتعليمية، كما شملت دور الأسرة في دعم العملية التعليمية بما يخلق تضافراً للجهود وتوزيعاً لعبء المسؤولية التضامنية.

.
الأمير الراحل وجّه بضرورة إطلاع السلطة التنفيذية على نتائج مشروعنا وتوصياته
لمّا كان البحث العلمي غير كافٍ وحده لتغيير الواقع، وكانت التوصيات المقدمة عقيمة من دون اقترانها بإرادة التنفيذ؛ فقد اقترح الباحثون على رئيس جمعية الطفولة د.حسن الإبراهيم عرض التقرير النهائي على المقام السامي الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، فهو رئيس السلطات الثلاث حسب الدستور، رحمه الله، وهو الذي لم يدخر فرصة في خطاباته للتأكيد على أهمية تطوير التعليم، وقد سعى د. الإبراهيم لترتيب ذلك اللقاء مع سموه.

وعند التشرف بعرض المشروع على المقام السامي، وجدنا منه صدراً رحباً ضيَّقته المأساة التي أظهرتها النتائج المعروضة عليه، ورأينا منه تشجيعاً على طرح المواضيع بصدق وشفافية، حتى لو كان ذلك جالباً للحزن والألم الذي بدا على محيَّاه وهو يستمع إلى ما نعرضه، لقد كان لخطورة النتائج وقعٌ كبير على سموه، فانطلق يحدثنا عن التعليم في الماضي، ويقارن بين المتعلمين والمعلمين في الماضي والحاضر، ثم سألنا من منطلق الراعي المسؤول عن رعيته، المهموم بهمومها، المتطلع إلى صلاح أحوالهم، عمّا نريد فعله لإصلاح الأمور، فأخذنا نعرض عليه التوصيات العملية، وسألناه عرضها على الجهاز التنفيذي، ثم استعرضنا بعض التجارب العالمية ذات الظروف المشابهة بظروف الكويت، علَّنا بذلك نبثُّ شيئاً من الأمل بعد أن جثا اليأس على صدورنا من هول ما أطلعناه عليه.

وانتهى ذلك اللقاء بتوجيهات من سموه بضرورة إطلاع السلطة التنفيذية على نتائج المشروع وتوصياته، وصحبنا مستشار سموه، في لقاء آخر، إلى اللجنة الوزارية المصغَّرة المعنية بملف التعليم، فاجتمعنا بأعضائها وكلُّنا أمل أن تُحقَّق الإصلاحات المنشودة التي نالت شرف الدعم المباشر من سموّ الأمير، وعرضنا في الاجتماع الثاني ما عرضناه في الاجتماع الأول، مع تركيز على التوصيات والإصلاحات المنشودة. وبعد إبداء اللجنة اهتماماً بالمشروع، وانتهاء الاجتماع بأملٍ مضافٍ إلى الأمل الذي انتهى إليه الاجتماع الأول، بعد كل ذلك وصلنا إلى النهاية الطبيعية لكل مشاريع الإصلاح المحتفى بها، أعني الدرج، ذلك المكان الذي تفوق كنوزه كنوز مغارة علي بابا، ففيه من المشروعات الجادة ما من شأنه أن يجعل الكويت جنة الله في الأرض، ويجعل أهل الكويت منافسين لأهل جميع المدن الفاضلة التي رسمتها مخيِّلات الفلاسفة والعلماء والمفكرين والحالمين من الشعراء والفنانين.

وأثار هذا الدرج حيرتي واستغرابي، فكيف لقطعة أثاثٍ- مهما غلا سعرها- أن تكبت طموحات العلماء والمفكرين والخبراء المحليين والدوليين؟! بل كيف لهذه القطعة الحقيرة الملحقة بأثاث المكاتب الفاخرة أن تعارض طموحات أعلى سلطة في البلاد؟! ومن أين للدرج تلك القوة على إحباط آمال الشعب مصدر كل السلطات في بلادنا؟

إذا كانت المادة 55 من الدستور تجعل الوزراء أداة لممارسة سمو الأمير صلاحياته الدستورية، وإذا كان وزير التربية ممثلاً لسموه، منفِّذا طموحاته، مُؤْتمِراً بأوامره، وإذا كان الخطاب الأميري في افتتاح أي دور للانعقاد في مجلس الأمة راسماً مسار السلطة التشريعية، فلماذا لم تتحقق رغبة سموه في إصلاح التعليم؟ ولماذا دخلت إلى «الدرج» كل مشاريع الإصلاح التي أحالها سموّه إلى مجلس الوزراء؟ ولماذا لم يتجاوب نواب الأمة مع دعوات سموه إلى تحصين التعليم بسنّ قوانين تضمن تطوره وتزيل العقبات أمام مشاريع إصلاحه؟

أَمِنَ المعقول أننا لن نتمكن من الخلاص من سلطة الأدراج إلا إذا رحمتنا منها كارثة عظيمة يخفي وجهها الكريه نعمة جميلة وجليلة؟! كنت أظن ذلك، لكن الواقع وسلطة الأدراج خيَّبَت الآمال، فقد حلَّت الكارثة وانتهت، وما زالت الأدراج ضنينة بما فيها من كنوز، بل راكمت مزيداً من الدراسات ومشروعات الإصلاح والطموحات والآمال والأحلام، وهذا ما سنبيّنه في المقال التالي إن شاء الله.


* أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية في جامعة الكويت

back to top