وحدي وأنا مع نفسي

نشر في 22-03-2024
آخر تحديث 21-03-2024 | 17:06
 د. محمد عبدالرحمن العقيل

إن من أصعب التعاريف تعريف النفس، ومن يظن أنه يعرف نفسه جيداً فقد صغّر ذاته من دون أن يشعر، يقول علي بن أب طالب، رضي الله عنه، فيما ينسب له:

«وَتَـحْـسَبُ أَنَّـكَ جِـرْمٌ صَـغِـيرٌ

وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ».

إن من أخطر ما نواجهه في هذا العصر، هو الانكباب الشديد على متابعة الناس وتقصي أخبارهم والتلهف لمعرفة كل جديد، على حساب معرفة أنفسنا كما ينبغي! خصوصا بعدما دخلنا في ثورة المنصّات الرقمية للتواصل الاجتماعي والمعرفي.

صحيح أنها سهلت علينا التواصل مع الناس، لكنها سرقت منا لذّة التواصل مع أنفسنا، وسلبت لبّ الرجل الحازم، فقد انغمسنا بهذه البرامج، وصارت معنا في كل دقيقة، وصرنا نستقبل الرسائل طوال اليوم بأشكالها المتنوعة، إما بنص مكتوب أو بمقطع صوتي أو بصورة متحركة، وصارت النفس منشغلة بالرسائل الرقمية والإعجابات والتعليقات، فصرنا تابعين ومتبوعين، نصوّر لحظات حياتنا، ونتلهف لإعجاب البعيد أكثر من القريب! فانقلبت الحال، وصارت برامج التواصل تحجبنا عن التواصل.

إن التأمل في الأمور العظيمة التي خُلقنا من أجلها لا تكتمل إلا بصفاء الذهن والخلوات، فهي التي يحصل فيها التأمل والتفكر، ومصارحة النفس، واكتشاف أسرارها وضعفها وقوتها، ومحاسبتها محاسبة صريحة، وهي أيضا فرصة عظيمة للتقرب من الله ومناجاته، والتعرف على أسمائه وصفاته وحكمته في خلقه، والتدبر في كلامه وآياته.

إن النفس تحتاج إلى قسط من الراحة، والتواصل مع خالقها الذي يملكها، والتواصل مع الروح التي تسكنها، ومع العقل الذي يقرأ ما حولها، ومع القلب الذي يحسّ بها ويوجهها، فلذلك ينبغي أن نتواصل مع ذواتنا ونتأمل تكوينها وتقلباتها، وما يحيطها من تحديات، فلا يظن البعض أن الموضوع سهل، فقد أقسم الله عز وجل أحد عشر قسما قبل قوله «قَد أَفلَحَ مَن زَكّاها»، أي النفس.

ولا يقسم العظيم إلا بعظيم، فكيف لهذا الكيان الصغير أن يجمع كل هذه التناقضات والأضداد، والتقلبات التي لا تنتهي، بين خير وشر، وإيمان يزيد وينقص، وبين نضج وسفاهة، وعصبية وسكينة، ومكر وبراءة، وجبن وشجاعة، يصبح مؤمنا ويمسي كافرا، وعالم لا ينتهي!

يقول جلال الدين الرومي: «فيما مضى كُنت أحاول أن أُغير العالم، أما الآن وقد لامستني الحكمة، فلا أحاول أن أُغير شيئاً سوى نفسي!».

back to top