التهديد الحقيقي للهيمنة الأميركية

نشر في 20-03-2024
آخر تحديث 19-03-2024 | 17:50
 بروجيكت سنديكيت

أمام أوكرانيا شهر تقريباً قبل نفاد قذائفها المدفعية، ولا يستطيع الكونغرس الأميركي الموافقة على شحن المزيد من القذائف، فقد توفي زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني، وتستمر المذبحة في غزة دون وجود أي مؤشر على نهايتها، كما يهاجم الحوثيون اليمنيون السفن في البحر الأحمر، ويختبر الكوريون الشماليون صواريخ باليستية عابرة للقارات، وفي الأوقات العادية، قد يبدو التشاؤم وكأنه بدعة فكرية، وفي مثل هذه الأوقات، يصبح شكلاً واضحاً من أشكال الواقعية.

إن النظام العالمي في مرحلة ما بعد عام 1945- المُدرج في القانون الدولي، والذي صادقت عليه الأمم المتحدة، وتم الحفاظ عليه من خلال توازن الإرهاب النووي بين القوى الكبرى- أصبح مُعلقاً بخيط رفيع، فالولايات المتحدة منقسمة على نفسها، وتكاد إمكاناتها تُستنفَد عن آخرها، لقد انتبهت أوروبا إلى احتمال عدم قدرة أميركا في نوفمبر المقبل على الوفاء بالتزاماتها الدفاعية الجماعية بموجب المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي، وفي مواجهة حالة عدم اليقين الجديدة هذه، تعمل أوروبا على زيادة إنتاجها الدفاعي، ويستجمع السياسيون الأوروبيون الشجاعة اللازمة لإقناع ناخبيهم بأنهم سيحتاجون إلى دفع 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي لضمان أمنهم.

لا يواجه التحالف الغربي التحدي المُتمثل في مضاعفة جهوده الدفاعية مع الحفاظ على الوحدة عبر المحيط الأطلسي فحسب، بل يواجه الآن أيضا «محور المقاومة» الذي قد يميل إلى تهديد الهيمنة الغربية من خلال تحدي متزامن ومنسق، ويتمثل أساس هذا المحور في الشراكة «بلا حدود» بين روسيا والصين، وفي حين يُزود الصينيون الروس بدوائر متقدمة لأنظمة أسلحتهم، يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتزويدهم بالنفط الرخيص، لقد فرضت الدولتان معاً حكماً استبدادياً على معظم منطقة أوراسيا.

وإذا اضطر المدافعون عن أوكرانيا المُنهكون إلى التنازل عن السيادة الروسية على شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس، فسيكون المحور الأوراسي للدكتاتوريين قد نجح في تغيير الحدود البرية الأوروبية بالقوة، ومن شأن تحقيق هذه الغاية أن يهدد كل دولة على مشارف أوراسيا: تايوان، ودول البلطيق، وحتى بولندا، وسيستخدم كلا النظامين الدكتاتوريين حق الفيتو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للتصديق على الغزو، الأمر الذي يعني فعلياً إرسال ميثاق الأمم المتحدة إلى مزبلة التاريخ.

تعمل هذه الشراكة بين الدكتاتوريين جنباً إلى جنب مع مجموعة من المرتدين الذين ينتهكون الحقوق، بقيادة إيران وكوريا الشمالية، ويزود الكوريون الشماليون بوتين بالقذائف المدفعية في حين يخططون لغزو بقية شبه الجزيرة الكورية، ويصنع الإيرانيون الطائرات بدون طيار التي تُرهب الأوكرانيين في خنادقهم. ومن ناحية أخرى، يساعد وكلاء إيران- حماس، وحزب الله، والحوثيون- روسيا والصين من خلال تقييد أميركا وإسرائيل.

وما لم تتمكن الولايات المتحدة من إرغام إسرائيل على وقف إطلاق النار على المدى الطويل، فستجد نفسها تكافح من أجل السيطرة على الصراعات على ثلاث جبهات (آسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط). حتى الدولة التي تتفوق على منافسيها في مجال الدفاع بمعدل اثنين إلى واحد لا يمكنها خوض الحرب في وقت واحد عبر العديد من الساحات.

إن فكرة انضمام الديموقراطيات في مختلف أنحاء العالم إلى أميركا وأوروبا ضد التهديد الاستبدادي تبدو مجرد وهم، فبدلاً من الانضمام إلى الديموقراطيات المحاصرة في بلدان الشمال، يبدو أن الديموقراطيات الصاعدة في دول الجنوب- البرازيل والهند وجنوب إفريقيا- غير مُحرجة من التحالف مع الأنظمة التي تعتمد على القمع الجماعي، وإيواء شعوب بأكملها (الأويغور في الصين)، وأفظع جرائم القتل (نافالني هو أحدث مثال على ذلك).

من المؤكد أن المحور الاستبدادي متحد حالياً فقط بفضل ما يعارضه: القوة الأميركية، وهي منقسمة بخلاف ذلك على مصالحها العليا، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن يكون الصينيون سُعداء بمنع الحوثيين لحركة الشحن عبر البحر الأحمر، إذ إن ثاني أقوى اقتصاد في العالم ليس لديه الكثير من القواسم المشتركة مع جيش المقاومة الإسلامية الفقير أو مع إيران الثيوقراطية.

علاوة على ذلك، تظل كل من روسيا والصين مستفيدتين من الاقتصاد العالمي الذي تدعمه التحالفات وسياسات الردع الأميركية، ولهذا السبب ما زالا يترددان في تحدي الهيمنة بشكل مباشر، ومع ذلك، فهما يُشبهان أسماك القرش التي تشم رائحة الدم في الماء، فلم يتمكنا من النجاة من العقوبات الأميركية فحسب، بل واصلا إلى الازدهار، واستبدلا اعتمادهما على الأسواق المحظورة بأسواق جديدة في أميركا اللاتينية وآسيا والهند، واكتشفت كل من روسيا والصين أن السيطرة الأميركية على الاقتصاد العالمي لم تعد كما كانت عليه من قبل.

قد يدفعهما اكتشاف الضعف الأميركي هذا للمخاطرة بالتحدي العسكري المُشترك، وفي ظل هذه الظروف، نجحت الدبلوماسية وسياسات الردع الأميركية في إبقاء المحور مُنقسمًا، ويعمل مدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان على إبقاء القنوات مفتوحة أمام الصين، ومن الواضح أن الهجمات الأميركية السلبية ضد إيران قد أقنعت الثيوقراطيين بالسيطرة على حزب الله والميليشيات في العراق لا على الحوثيين الذين لا يستطع أحد السيطرة عليهم على ما يبدو.

لا يتطلب الأمر عبقرية استراتيجية لرؤية الفرصة التي قد تسعى الصين وروسيا إلى استغلالها، فإذا قرّر الطرفان تحدي النظام الأميركي علناً- على سبيل المثال، من خلال شن هجوم مُنسق ومتزامن ضد أوكرانيا وتايوان- فإن الولايات المتحدة ستكافح من أجل التدخل باستخدام الأسلحة والتكنولوجيا.

لن تمنع الأسلحة النووية بالضرورة الصين وروسيا من محاولة السيطرة على تايوان وبقية أوكرانيا. ستدفع جميع الأطراف ثمناً باهظاً للغاية، لكن روسيا أظهرت ما هي على استعداد لإنفاقه في أوكرانيا، وقد تعتقد كل من الصين وروسيا أنهما لن تتسنى لهما فرصة أكثر ملاءمة لتقويض الهيمنة الأميركية، إذا قامتا بتوحيد قواهما، فسنواجه التحدي الأكثر خطورة أمام النظام الاقتصادي والاستراتيجي العالمي منذ عام 1945.

لا أحد لديه أي فكرة عما سيكون عليه العالم على الجانب الآخر من مثل هذه المواجهة، ولا يمكننا حتى افتراض، كما فعلنا دائما، أن تنتصر أميركا إذا واجهت تحديا متزامناً من قوتين هائلتين، وإذا كان المتشائم هو الشخص الذي يتخيل الأسوأ من أجل منع حدوثه، فيجب أن نكون جميعا متشائمين، ويجب أن يكون منع المحور الاستبدادي من أن يصبح تحالفاً متكاملاً أولوية من الدرجة الأولى لأميركا.

* أستاذ التاريخ والرئيس الفخري لجامعة أوروبا الوسطى في فيينا، وسياسي كندي سابق ومؤلف كتاب «في العزاء: العثور على العزاء في الأوقات المظلمة».

back to top