عمر الحريري... نجم لا ينطفئ بريقه

الابن المدلّل ينطلق مع والده في مسارح عماد الدين

نشر في 18-03-2024
آخر تحديث 17-03-2024 | 14:45
ارتحل الفنان عمر الحريري إلى عالم التمثيل في وقت مبكر، ويعد آخر فرسان جيل العمالقة، وامتدت مسيرته الفنية لنحو 70 عامًا، قدّم خلالها 180 فيلمًا، و35 مسرحية، و90 مسلسلًا تلفزيونيًا، و75 مسلسلًا إذاعيًا، ونال العديد من الجوائز والتكريمات، واتسمت شخصيته بالنُبل والتواضع الشديد، قبل أن يرحل في 16 أكتوبر 2011، وعمره يناهز 85 عامًا، ولا يزال نجمًا لامعًا لا ينطفئ بريقه، وحاضرًا في قلوب الملايين من محبيه وعشاق فنه في أرجاء العالم العربي.

كان حضور عمر الحريري أمام الكاميرا كافيًا ليخطف الأنظار، بأدائه السهل الممتنع، من دون تكلّفٍ أو صراخ، سواء في دور رئيس أو ظهوره كضيف شرف، وخلال تلك الرحلة الطويلة، تراكمت في ألبومه الفني آلاف الصور التي وثّقت سيرة هذا الممثل الاستثنائي، ووضعته في الصف الأول مع نجوم من أجيال مختلفة، رغم ابتعاده عن أدوار البطولة المطلقة.

أفلام عالمية

دخل الحريري السينما العالمية من خلال الفيلم الإيطالي «عملية إبادة» Operacion Exterminio)) عام 1965، تأليف وإخراج أمبرتو لنزي، وجسّد دور ضابط شرطة مصري أمام مجموعة من النجوم، منهم إنجريد سكلر، وألبرتو لوبو، وجورج وانج، ومن مصر عمرو الترجمان وأحمد لوكسر، والعمل من نوعية أفلام الجاسوسية، وتدور أحداثه في أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وصُوِرت مشاهده بين القاهرة وجنيف وروما.

الممثل المصري يتألق مع نجوم السينما العالمية في فيلم إيطالي

وترك الحريري بصمته في الفيلم العالمي «عمر المختار» (1981)، حين جسّد شخصية القائد الإيطالي بينينو موسوليني من خلال الدبلجة الصوتية، بينما قام بالدور على الشاشة الممثل رود ستايجر، والفيلم بطولة أنتوني كوين، وإيرين باباس، وأوليفر ريد، وراف فالون، وإخراج مصطفى العقّاد.

وتدور أحداث الفيلم في ليبيا عام 1929 حول المناضل الليبي عمر المختار، الذي يقف ضد الاستعمار الإيطالي ويقود الثورة في بلاده، فيضطر موسوليني إلى إرسال الضابط رودولفو جراتسياني من أجل التصدي للثورة هناك، والقضاء على زعيمها عمر المختار.

سُكّر هانم

تنوعت أدوار الحريري في السينما والتلفزيون والمسرح، وترك بصمة متفرده بأدائه التلقائي، ونبرة صوته المميزة، وجسّد شخصية الشاب الوسيم قليل الخبرة في الفيلم الكوميدي «سُكر هانم» (1960)، إخراج السيد بدير، ورشّحته ملامحه الأوروبية لدور ملك فرنسا فيليب أغسطس في الفيلم التاريخي «الناصر صلاح الدين» (1963)، للمخرج يوسف شاهين.

لكنّ الفتى الوسيم خاصمته أدوار البطولة المطلقة، باستثناء فيلم واحد هو «أغلى من عينيه» (1955)، تأليف وإخراج عزالدين ذوالفقار، وتمثيل النجمة سميرة أحمد وحسين رياض وفاخر فاخر وفتوح نشاطي. وتدور القصة حول تعرُّض الشاب كمال لمحنة قاسية، حين يندلع حريق في مسكن والدته، فيهرول عبر النيران كي ينقذ حياتها ويتشوه وجهه، وتهجره خطيبته، وتنهال المصائب فوق رأسه ويفقد عمله ويتعرّف على فتاة ضريرة يعطف عليها ويحبها، ويقرّر الزواج منها.

دبلجة «عمر المختار» تمنحه دور موسوليني أمام أنتوني كوين

ودارت في كواليس الفيلم مواقف كثيرة، بدأت حين اختاره المخرج ليقوم بدور البطولة لأول مرة بعد سلسلة من الأدوار مع نجوم آخرين، وطلب منه أن يتفرّغ تمامًا لهذا العمل، وراهن ذوالفقار على موهبة الممثل الشاب، وبدوره تحمّس الحريري للتجربة، وأدى الدور ببراعة، وكان مرشحًا وقتها للفوز بجائزة أفضل ممثل.



وكان مشهد الحريق من أصعب مشاهد الفيلم، وجرى تصويره بشكل واقعي داخل الاستديو، وتطلّب الأمر بناء منزل من ثلاثة طوابق، ورفض الحريري الاستعانة بـ «دوبلير»، واقتحم النيران بنفسه، بينما يقوم بتصوير المشهد من الطابق الأخير، المصوِّر كمال كريم، الذي أصبح لاحقًا من كبار مديري التصوير في السينما المصرية.

وحين اشتعلت النيران، هبط المصوّر مسرعًا، وطلب من الحريري أن يخرج من المنزل، لكنّه استمر في تأدية المشهد، مما عرّضه للإصابة ببعض حروق طفيفة، وجرى إسعافه، وأصر على استكمال بقية المشاهد.

وبعد نجاح الفيلم جماهيريًا، وجد الحريري نفسه بلا عمل، ومكث لعامين في المنزل، وتعلّل أصدقاؤه المخرجون بأنهم لا يجدون له دورًا مماثلًا للشاب كمال في «أغلى من عينيه»، واضطر لقبول أدوار في أفلام دون المستوى، ودارت العجلة من جديد، ولكن بعيدًا عن البطولة المطلقة.

أولاد الذوات

وُلِد عمر الحريري يوم 12 فبراير 1926 في حي باب اللوق بالقاهرة، لعائلة ثرية، ووالده محمد بك صالح عبدالهادي الحريري، كان يمتلك محطة إذاعة أهليّة، ولديه شغف بالمسرح والفن الراقي، ولذا عشِق عمر التمثيل منذ نعومة أظفاره، وحرص والده على اصطحابه معه إلى العروض المسرحية في شارع عماد الدين، ووقتها كانت تقدّمها فرق جورج أبيض، وعلي الكسّار، وفاطمة رشدي، ويوسف بك وهبي، ونجيب الريحاني.

«سلامة في خير»... أول ظهور سينمائي صامت مع نجيب الريحاني

كما اصطحبه والده لمشاهدة أول فيلم مصري ناطق، «أولاد الذوات»، وكان عمره وقتذاك 7 سنوات، والفيلم من إخراج محمد كريم، وبطولة يوسف وهبي ودولت أبيض وأنور وجدي، وجرى تصويره بين القاهرة وباريس، واستغرق 5 أشهر، وعرض للمرة الأولى في 19 مارس 1932 بدار سينما رويال، وكان أول صوت عربي ينطق فيه الفنان يوسف وهبي في مقدمة الفيلم وقوبل بتصفيقٍ حاد، واستمر عرض هذا الشريط السينمائي لخمسة أسابيع، وشاهده في الأسبوع الأول 35 ألف مشاهد.

سحر الفن

في تلك الأجواء المعبقة بسحر الفن، ظهرت موهبة الطفل الصغير في تقليد نجوم السينما والمسرح، واشترك في فريق التمثيل بالمدرسة، ونافس فرق المدارس الأخرى، ومن بينها فرقة معهد اللاسلكي القريب من بيته في ضاحية باب اللوق، وكان حريصًا على الاشتراك في حفلات المدرسة وفرقة الهواة منذ أوائل الأربعينيات، واستمرت علاقته بالفرقة خلال دراسته بالمرحلة الثانوية.

في ذلك الوقت، كانت الأنشطة الفنية مزدهرة في المدارس، ويشرف عليها مخرجون ونجوم كبار، بتكليف من وزارة المعارف، ولفت الفتى الصغير انتباه المخرج نيازي مصطفى، ومنحه فرصة الظهور لأول مرة على الشاشة، في سن الحادية عشرة، من خلال مشهد صامت قصير بفيلم «سلامة في خير» (1937)، بطولة نجيب الريحاني وحسين رياض ومنسي فهمي، ولذا اعتبر نفسه تلميذًا في مدارس عمالقة التمثيل.

«الأفوكاتو مديحة» انطلاقة سينمائية إلى عالم الأضواء والشهرة

وبعد حصوله على شهادة البكالوريا، قرّر الحريري الالتحاق بالمعهد العالي للتمثيل عام 1944، الذي أسّسه الفنان زكي طليمات، رغم نظرة المجتمع السائدة في ذلك الوقت عن فن التمثيل، وكان يطلق على الممثل «مشخصاتي»، وتخرّج عام 1947، وكانت أول دفعة تتخرج بهذا المعهد، وضمّت مجموعة من الأسماء اللامعة، منهم حمدي غيث، وفريد شوقي، وصلاح منصور، وسميحة أيوب، وسناء جميل، ونبيل الألفي، وشكري سرحان، وعبدالرحيم الزرقاني.

كرسي الاعتراف

اتجهت الأنظار إلى الحريري وأقرانه، كأول جيل دارس لفنون التمثيل والإخراج، وفتحت أمامهم أبواب النجاح والشهرة، ووقتها شارك في عدد كبير من البرامج الإذاعية، واختاره أستاذه الفنان زكي طليمات للانضمام إلى فرقته المسرحية، وسجلت كاميرا السينما حضوره عام 1949 في فيلمين، أولهما «كرسي الاعتراف» بطولة وإخراج يوسف وهبي، والثاني «إوعى المحفظة»، إخراج وبطولة محمود إسماعيل وتحية كاريوكا ومحسن سرحان ومحمود شكوكو.

السبع أفندي

بدأ الممثل الشاب انطلاقته السينمائية في فيلم «الأفوكاتو مديحة» عام 1950، بطولة وإخراج يوسف وهبي، وتمثيل النجمة مديحة يسري وحسين رياض وفردوس محمد وفاخر فاخر، وتدور أحداثه في إطار كوميديا اجتماعية.

وفي العام التالي، شارك الحريري في 4 أفلام دفعة واحدة، بدأها بفيلم «ابن النيل»، إخراج يوسف شاهين، وجسّد شخصية الشيخ أمام فاتن حمامة وشكري سرحان ويحيى شاهين وفردوس محمد، والفيلم الثاني «أولاد الشوارع» بطولة وإخراج يوسف وهبي، ومجموعة من الفنانين، منهم فريد شوقي ومديحة يسري ورشدي أباظة وزوزو ماضي.

«أغلى من عينيه» بطولة مطلقة حجبته عن السينما عامين

كما شارك في الفيلم الرومانسي «وداعًا يا غرامي»، آخر أفلام المخرج الشاب عمر جميعي، الذي رحل في فبراير من العام ذاته، ولم يمهله القدر لحضور عرض الافتتاح في 23 مارس 1951، وأحدث رحيله صدمة في الوسط السينمائي ونجوم فيلمه الأخير فاتن حمامة وعماد حمدي وفريد شوقي وعباس فارس وشريفة فاضل.

وشارك الحريري في الفيلم الكوميدي «السبع أفندي» إخراج أحمد خورشيد، وبطولة شادية وفريد شوقي وسراج منير وتوفيق الدقن وسعيد أبوبكر وشفيق نورالدين، ويتناول الفيلم حكاية السبع أفندي، وهو موظف بسيط يعاني اضطهادَا من رئيسه في العمل، وكذلك قريب حبيبته التي يريد أن يتزوجها، ليحلم وهو نائم بأن كل مشكلاته انتهت، وأنه يعيش حياة سعيدة، وعندما يستيقظ من نومه، يقرّر أن يتحدى الظروف من أجل الزواج من محبوبته.

«الأرستقراطية» أبعدته عن فرقة يوسف وهبي

جمعت عمر الحريري والفنان الكبير يوسف وهبي، علاقة صداقة، وشارك معه في أفلامه الأولى، وتشابهت نشأتهما إلى حد كبير، فكلاهما سليل عائلة ثرية، واحترفا الفن في وقت كانت نظرة المجتمع للممثل أنه «مشخصاتي»، والتمثيل مهنة لا تليق بأبناء العائلات الأرستقراطية.

وبعد سنوات، كشف الحريري سر رفضه العمل مع عميد المسرح العربي خلال لقاء جمعه بالفنانة صفاء أبوالسعود في إحدى حلقات برنامج «ساعة صفا»، والأزمة بدأت حين عمل معه في مسرح الدولة، وكان وهبي مديرًا للمسرح القومي، لكنه ترك منصبه للعمل منفردًا بعيدًا عن مسرح القطاع العام، ورفض الحريري العمل في فرقة وهبي، رغم إلحاحه المستمر عليه، وتكرّر اعتذاره لأسباب عِدة، أغربها أنهما ينتميان لعائلتين أرستقراطيتين.

ورفض الحريري العمل عنده في فرقته الخاصة، وقال له: «لا أستطيع يا يوسف بك، أنا أعمل معك، الأمر مختلف وأنت مدير المسرح القومي، لكن أن أعمل معك في فرقتك الخاصة لا أستطيع ذلك»، وكان سبب الرفض أنه لا يريد أن يمدّ له يده ويتقاضى أجرًا منه، بينما في عمله معه بالمسرح القومي كان يتقاضى راتبه من الدولة، ولشعوره أنهما متساويان في المكانة الاجتماعية.

back to top