دبلوماسية المذاق الرفيع... والتكامل العربي... وغزّة الحاضرة

نشر في 10-03-2024
آخر تحديث 09-03-2024 | 19:21
 د. بلال عقل الصنديد

تشرفت مؤخراً بتلبية دعوة سعادة السفير الجزائري لدى الكويت نورالدين مريم إلى فعالية «صالون فن الطبخ الجزائري الأول في الكويت»، الأمر الذي شكّل فرصة لي كما لجميع المحبين للأشقاء في بلاد المغرب العربي أن نتعرف على بعض عادات وتقاليد الأشقاء الجزائريين وأن نتشارك معهم متعة تذوق «رشتة» بليدة و«طاجين» وهران و«رفيسة» بجاية و«التاي» الصحراوي.

لا شك أهمية «دبلوماسية الطهي»، كشكل من أشكال الدبلوماسية غير الرسمية التي تسهم في دعم وتعزيز العلاقات بين الشعوب وتوطيدها، وبما تشكله- على حد قول السفير المميز- من جسر تواصل بين الشعوب وعاملاً مهماً لتعزيز التفاهم المشترك، إلا أن اللافت في الأمر هو حرارة الترحاب وحماسة المشاركة التي لاحظتها على جميع السيدات والسادة المشاركين من الجالية الجزائرية في الكويت، والذين أبدوا سعادة واضحة بمشاركة عدد ملحوظ من أصدقائهم الكويتيين والعرب، مما أتاح الفرصة لتأكيد متانة الروابط الاجتماعية والتقارب الحضاري والأخوي بين جناحي العالم العربي، مهما ابتعدت المسافات أو اختلفت الاتجاهات الظرفية والسياسية.

كأي سفير نشيط ووطني وعروبي، حدد السفير الجزائري أولويات عمله أثناء مدة إقامته في الكويت، من خلال السعي الى تعزيز العلاقة الثنائية اقتصادياً وتجارياً وسياحياً، وتشجيع الزيارات المتبادلة رسمياً وشعبياً، والعمل على استئناف رحلات الطيران المباشر بين البلدين، وقد بدت هذه الفعالية انعكاساً حقيقياً وطبيعياً عن «دبلوماسية المذاق الرفيع» التي يتبعها في علاقاته الرسمية والخاصة، إذ يشهد له- على قدر متابعتي الخاصة- أنه من نمط السفراء الذين لا يكتفون بالتواصل المكتبي والرسمي، على أهميته، بل يزيدون على ذلك بالسعي الى أن يكون كل فرد من أفراد الجالية سفيراً وممثلاً راقياً لبلاده، وبجعل كل فعالية ثقافية أو اجتماعية أو سياسية مشهداً معززاً لأواصر الصداقة والأخوّة.

فدماثة الخلق تسبق اللياقات الرسمية في تقرّب الدبوماسي من الجميع، واتساع المدارك الثقافية والحضارية تسمح بسهولة التواصل الفكري معه، وايمانه بالقضايا المشتركة وبالتكامل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بين شعوب وقوميات «الوطن الأكبر» هو أوضح دافع على مشاركة سعادة السفير كثيراً من آرائه التي أقل ما يقل عنها أنها «ذات مذاق رفيع» بنكهة عربية ممتازة.

***

الكلام عن الدبلوماسية الرفيعة والنشيطة يقودني الى الإضاءة على أهمية الفعاليات المكثفة والمفيدة التي تشهدها دورياً ديوانية السفارة اللبنانية بالتعاون المشترك بين القائم بأعمال السفارة اللبنانية أحمد عرفة ومجلس الأعمال اللبناني في الكويت، والتي كان آخرها استضافة مجموعة من الشخصيات المتخصصة للحديث عن الوضع الاقتصادي وبيئة الأعمال العربية واللبنانية.

وقد كان لافتاً التقاء الخبراء الاقتصاديين على التركيز أن الدراسات التي تقوم بها المراكز العالمية المتخصصة تؤكد على أن الوطن العربي، وتحديداً المحيط الخليجي، سيكون في المستقبل القريب قبلة الاستثمار المستدام ولاسيما في مشاريع الطاقة البديلة وسيحل في العقود التالية محل «أوروبا» التي كانت في العقود الخالية محجة المهتمين بالحضارة والثقافة والبنيان والتنمية، وأصبحت الآن ميدان حرب استنزاف وأزمات اقتصادية واجتماعية أقل ما يقال فيها إنها جدّية ومقلقة!

ولعلها مناسبة وفرصة لأن أسمح لنفسي- كمواطن عربي- بالتذكير بأهمية التكامل العربي الذي أصبح مع الزمن وما مع مرّ علينا من خيبات وإحباطات شعاراً رومانسياً وربما ممجوجاً بفعل بعض أنظمتنا البائدة، رغم أن هذا الحلم- إن تم تحقيقه بعقلانية وموضوعية وهدوء- ليس من شأنه المساس بالخصوصيات المحلية ولا التناقض مع الثوابت الوطنية ولا عرقلة التوجهات السياسية، فالتعاون أفيد حتماً من التنافر، والتقارب أثبت قطعاً من التباعد، وما يجمعنا من المحيط الى الخليج أكبر بكثير مما يفرّقنا.

أدرك تماماً أن الكلام عن التكامل الاقتصادي والاجتماعي العربي قد يذكّر بشعارات «الوحدة» التي فشلت وتم إفشالها بسبب كثير من السياقات والظروف والشخصيات التي أصبحت من الماضي الذي لا بد من استذكاره للتفكّر والتدبّر دون البقاء عنده أو التشبث بثوابته التي جرّت الخيبات وراكمت الفشل، لكن التنمية التي مضت بعض دولنا في تحقيقها بشكل جدّي لا يمكن استدامتها من دون تعاون وتكامل مع الدول المحيطة والصديقة والتي من حسن الحظ أنها شقيقة في معظمها.

اذا كان الامتعاض هو المصير الطبيعي لرومانسية الحديث عن «الوحدة السياسية» فإن التكامل الاقتصادي هو المصير الحتمي لأي حلم تنموي... هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها ولا يمكن القفز حول ثوابتها التاريخية، ولنا بالاتحاد الأوروبي مثال، حيث اجتمع على مصلحة واحدة أكثر من 100 قومية يتكلمون 24 لغة معترف بها رسمياً، رغم كل الخلافات والتفاوت السياسي بين أنظمة الحكم، ورغم الحرص الشديد على الخصوصيات الوطنية والمحلية.

ليس جديداً التذكير بأن التكامل العربي الاقتصادي المدروس والموضوعي، يمكننا جميعاً من الاستفادة من الموارد والطاقات والثروات الطبيعية التي تزخر بها بلادنا العربية على امتداد الخريطة السياسية المترامية... وليس غريباً أن العملية الإنتاجية قد تحتاج ليد عاملة من هنا، ولموارد مالية من هناك، ولمواد أولية من هنالك، وتميّز علمي ودبلوماسية تجارية تتوافر لدى شعب من الشعوب أكثر من غيره... وليس مخيفاً أن تتلاقى طاقات وثقافات وقيم الشعوب التي تجمعها اللغة والدين والموروث والأصول ويوحدها الشغف الى مستقبل مشرق ومضيء والتوق الى معيشة كريمة وأمن مستدام واستقرار دائم، دون المساس بالهوية الوطنية.

***

وفي خضم الحديث عن العروبة والدبلوماسية، لا تفوتني ملاحظة الجهود الجدّية التي تقوم بها سفارة دولة فلسطين لتعزيز الحضور الفلسطيني في دولة الكويت على كل المستويات الرسمية والشعبية والثقافية، ولا يجوز التغاضي عن دينامية سفير دولة فلسطين رامي طهبوب الذي تراه حاضراً مبتسماً في كل المناسبات ومستعداً للإضاءة على أبرز الاهتمامات الفلسطينية التي في مقدمتها هذه الفترة العدوان المتمادي على قطاع غزّة والتي يجب أن تكون موضع تركيز الشعوب العربية والإسلامية ولا سيما في شهر رمضان المبارك بوسائل الدعم كافة، وبحد أدنى بالدعاء الصادق لأهلها الصامدين المنكوبين.

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top