الثقافة تعود إلى غربتها

نشر في 25-11-2022
آخر تحديث 24-11-2022 | 20:00
 د. محمد بن عصّام السبيعي حين ينشر هذا المقال سيكون معرض الكتاب قد أغلق أبوابه أو على وشك ذلك، حينها سيعاود أصحاب الوجاهة الثقافية عادتهم كل عام في ندب حظهم في أن كتبهم لم تلق ما لقيته كتب أخرى من رواج، كتب هي في نظرهم أدنى شأناً، ملقين باللائمة على جمهور القراء الذين انحرفت ذائقتهم إلى الرديء من محتوى ورواية لا يرونها بحسب ما كونوه لأنفسهم من صور نمطية جديرة بالقراءة فضلاً عن الاقتناء، وحتماً مع انحراف الذائقة انحرفت أيضاً أموال الجمهور التي يرى أعلام الثقافة بحسب السياق ذاته أنهم أولى بها من غيرهم، أليس كذلك؟

وبعيداً عن خوض في الجانب المادي الجشع الذي لا ينبغي أن يكون حافزاً لسلوك المثقف أو مردوداً له، فإن موقف أصحاب الثقافة يكشف عن سوء فهم على أكثر من مستوى، فأولاً لا بد من فك الاشتباك بين الكتاب بوصفه أداة إعلام للآخر، والثقافة بما يمكن تعريفها بالمجهود الفكري الاستثنائي، فالكتاب بشكله الحالي الذي لم يتغير كثيراً منذ قرون خلت لم يكن أول ولا آخر أداة لنقل المحتوى أو الرسائل على اختلاف ألوانها، فقبله كان هناك الحجر والجدران، ومن بعده الإذاعة والتلفزة، ومن بعدهما كل الوسائل الإلكترونية، وصفحات الكتاب وإن بدأت عهدها حين كانت نفيسة الثمن في حمل الزاد الثقافي الجاد، فهي في آخر المطاف شأن كل وعاء حين يبخس ثمنه تستخدم لحمل كل أنواع الرسائل، فهناك كتب لا تتضمن سوى تعليمات استخدام جهاز أو لأنواع من الرياضة البدنية، وأخرى مصورة للأطفال، وغيرها مما يجمع بين دفتيه دعابات مسلية وأخرى سامجة، أو قد يحمل ما يرتدي حلة الإنتاج الفكري الرصين، إلا أنه يفتقر إلى المحتوى الفريد والمبدع وهكذا، فأن يحتكر أصحاب الثقافة الكتاب وشأنه لأنفسهم دون غيرهم ادعاء قصير النظر لا ينبغي لأحد في عالم اليوم، فشأن من يدعي ذلك كشأن من يحرم استخدام الرسائل الإلكترونية لغير نقل ما يتعلق بالأنظمة الإلكترونية ذاتها!



المستوى الآخر يتناول محاولة وضع فهم صحيح ودقيق للثقافة ذاتها، تلك التي كثر أدعياؤها، فمن يتأمل جأر أولئك بالشكوى وتهافتهم في جعل تداول إنتاجهم كواجب على المجتمع يستنتج أنهم يرون في الثقافة شأناً عاماً، أو ينبغي أن يكون لكل فرد دراية وشغف بها، بل خوض فيها، وبعيداً عن أن يكون تعظيم المردود المادي هو الدافع من وراء تلك الدعوة فإن مثل هذا المذهب الذي يشرع باب الفكر لكل من هناك يعد بحق أحد عوامل ركود أو تواضع الإنتاج الثقافي، والحق أن من يتأمل الحالة الثقافية بمعنى المجهود الفكري المتعالي يجدها بسبب من جديتها وفرادة إنتاجها ذات منحى نخبوي، إن لم نقل «غريب» لا يتعاطاه الكثيرون، وحسن ذلك منحى، فتشْ التاريخ طولاً وعرضاً ستجد أن الانشغال الفكري كان على الدوام شأناً خاصاً ومحدوداً، وأن أغلبية المجتمع سواء في عصور خلت أو في هذا العصر لم يكن يعنيها من ذلك إلا ما يخدم عيشها، بل ليس من قبيل الادعاء أن كانت الثقافة ومنشغلوها في كل نماذج الزمان والمكان، بين حين وآخر، مادة للتندر عند العامة!

فلا ريب أن مثل هذه التطورات، أي انصراف كل لشأنه، هي مما ينقي الثقافة والمهتمين بها ممن قد يكونون لسبب من شح أدوات أو قنوات نقل الرسائل قد زاحموا المثقفين شأنهم، وحري بالمثقفين أن يسعدوا بذلك، فمثلما تنفست صفحات الثقافة في الصحف الصعداء بعد ظهور المنابر الإلكترونية ذات السطر والسطرين لمن لا يطيقون القراءة العميقة والمستفيضة، فإن انصراف تلك الشريحة من القراء التي يتحسر عليها بعض المثقفين إلى شأن لهم، له حتماً فعل تنقية الخطاب الثقافي مما خالطه، وعودة الثقافة إلى حقيقتها أو إلى غربتها إن صح التعبير.

back to top