الذكاء الاصطناعي وندم جون مكارثي وقانون الاتحاد الأوروبي

نشر في 18-02-2024
آخر تحديث 17-02-2024 | 19:05
 د. بلال عقل الصنديد

شهد تاريخ البشرية سلسلة من الاختراعات والاكتشافات العلمية التي قلبت حياتنا وأنماط عملنا وطرائق تفكيرنا رأساً على عقب، ومن أكثرها وضوحاً وتأثيراً في عالمنا المعاصر أربع: الطاقة البخارية، والكهرباء، والإنترنت، والذكاء الاصطناعي الذي يعيد الى أذهاننا أهمية اختراع الخوارزميات المنسوبة الى محمد بن موسى الخوارزمي أبو الرياضيات في زهوة العصر العباسي.

ينسب تطوير المحرك البخاري للمهندس الاسكتلندي جيمس واط الذي أحدث بإنجازه هذا ثورة علمية مكّنت البشر من الانتقال من عصر الحصان والعربة الى زمن المركبات والقطارات والبواخر التي تسير بدفع الأحصنة الآلية، كما مكّنت المصانع من أن يكون إنتاجها أغزر وأوفر باستخدام آلات معقدة بدلاً من الجهد اليدوي... «ثورة البخار» لم تؤثر فقط في تقريب المسافات وتوفير الوقت وتخفيق التكاليف، بل ساهمت أيضاً بتغيير الأنماط الاجتماعية والاقتصادية، وسهلت تناقل الأفكار وتداول السلع وأدت الى ظهور طبقات اجتماعية جديدة.

وها هي «ثورة الكهرباء» تكمل المسيرة وتحدث انقلاباً أوسع نطاقاً وأشد تأثيراً كون أدوات استخدامها لم تعد محصورة في بعض المجالات الإنتاجية وبوسائل النقل المختلفة، بل غزا وجودها جميع بيوت وأسواق وأزقة العالم، وفتح أمام الأجيال المتعاقبة آفاقاً جديدة في مجالات الإضاءة والاتصال والإنتاج.

بقي للكهرباء وهج وجودها الذي لم ينافسه في البريق والأهمية أي اختراع أو اكتشاف آخر الى أن انفجرت «ثورة الإنترنت والاتصال» في القرن العشرين لتحدث انقلاباً ممتداً الى كل أرجاء الأرض وعلى المستويات كافة، حتى وصل الأمر الى نسبة الجيل الجديد اليها كون تربيته وعلمه ونمط عيشه وتجارته ورفاهيته وكل تفاصيل حياته أصبحت معتمدة بشكل كلي على تطبيقاتها.

ومن هنا تبدأ إرهاصات الثورة الأكثر حداثة وربما الأكثر تأثيراً، وهي «ثورة الذكاء الاصطناعي» الذي بدأ العالم بالتآلف شيئاً فشيئاً مع مصطلحاته وأدواته وما يقوم به هذا الذكاء الآلي من مهام معقدة كانت تتطلب في الماضي القريب تدخلاً بشرياً يستغرق وقتاً وجهداً كبيرين في إدخال البيانات وتحليلها واستخراج النتائج منها واستخدامها في كثير من المجالات العلمية والعملية، الأمر الذي يمكن تلخيصه بمحاولة استبدال الذكاء البشري بذكاء اصطناعي يثير الدهشة والاستغراب وتبهر نتائجه العقول وتستدعي مخرجاته الى الأذهان ما تفعله المخلوقات الخرافية في الأساطير والمرويات الخيالية!

***

ما إن تمددت «ثورة الذكاء الاجتماعي» لتشمل مجالات الحياة كافة في الجهات الأربع للكرة الأرضية، من التعليم الى الطب الى الترفيه الى العمل وصولاً الى التقاضي وإصدار الأحكام... حتى بدأ القلق لا يساور المتحفظين والتقليديين والمشككين في العالم فقط، بل طال ذلك أكثر الأشخاص والمؤسسات الخاصة والعامة انفتاحاً وتقبلاً للتجديد.

ومع أن الجميع يعترف أن لهذا الذكاء الآلي تأثيره الإيجابي في الحياة البشرية والبيئة والمناخ، ورغم أن حضوره صار ثابتاً ومؤثراً في كل محاولات التصدّي لمعوقات التنمية المستدامة وفي جهود تحسين مستوى المعيشة، فقد قابله الكثيرون- مثل الاختراعات والاكتشافات الجديدة كافة- بشيء من التحفظ وببعض من الرفض.

ومن هنا نذهب الى الإضاءة على القلق التقليدي الذي يرافق بداية أي ثورة علمية من فقدان أو تبدّل في أنماط العمل المطلوبة، الى الخوف من استخدامه بما يخالف القانون والأخلاق والقيم والتقاليد، مروراً بتأثيراته على الصحة والاستقرار النفسي والمادي وحتى الأسري.

ولعل ذلك ما دفع جون مكارثي أحد الآباء الأولين للذكاء الاصطناعي للتصريح علناً أنه «قلق بشأن احتمال استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض ضارة»، دون أن يصل به الأمر الى حد الندم الشديد الذي دفع ألفرد نوبل الى التوصية بتخصيص جائزة للإنجازات الأكاديمية والثقافية والعلمية كنوع من التكفير عن اختراعه للديناميت الذي استخدمه الأشرار للقتل والإيذاء بغير ما أراد وتخيّل مخترعه.

***

وفي السياق، نجح الاتحاد الأوروبي مؤخراً بالتوافق على إقرار تنظيم قانوني للذكاء الاصطناعي- هو الأول في العالم- ينطلق من عدة اعتبارات هي: ضرورة التصدي لمخاطر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مع الرغبة في عدم التخلف عن الركب، أهمية الموازنة بين الفوائد والمخاطر ولا سيما من النواحي الاجتماعية والبيئية والاقتصادية، ضرورة توافق التنظيم القانوني مع ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي والقوانين المُشتقة من الاتحاد الأوروبي في مجال حماية البيانات وحماية المستهلك، وعدم التمييز والمساواة بين الجنسين.

وقد رمى التنظيم الأوروبي الى تحقيق عدة مستهدفات، من أبرزها:

• ضمان سلامة أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يتم طرحها في السوق واحترامها للقوانين السارية المتعلقة بالحقوق الأساسية وقيم الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون والاستدامة البيئية.

• ضمان الأمن القانوني لتسهيل الاستثمار والابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي.

• تعزيز الحوكمة والتطبيق الفعال للقوانين الموجودة المتعلقة بمتطلبات السلامة لأنظمة الذكاء الاصطناعي والحقوق الأساسية.

• تطوير سوق واحد لتطبيقات الذكاء الاصطناعي القانونية والآمنة ومنع تجزئة السوق.

وقد ترجمت هذه الغايات من خلال مواد حظرت الممارسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي للتلاعب بالناس أو استغلالهم، ووضعت بعض الضوابط للأنظمة العالية الخطورة مثل أنظمة التعرف على الوجه والأنظمة التي تتخذ قرارات تؤثر بشكل كبير على حياة الناس، إضافة الى وضع قواعد موحدة للشفافية باستخدام أنظمة الذكاء التفاعلي، وأنظمة التعرف على المشاعر والتصنيف البيومتري، وأنظمة الذكاء التوليدي التي تُستخدم لإنشاء الصور أو التلاعب بها أو المحتوى الصوتي أو المرئي.

***

تذكرت في سياق الكتابة مقولة كان يرددها علينا المغفور له بإذن الله القاضي الدكتور سمير عالية في محاضرات قانون الجزاء مفادها أن الهاتف النقّال- الذي كان في وقتها من مستحدثات العصر- هو أداة جرمية في يد الأرعن والمنحرف، وهو وسيلة تواصل في يد العاقل والمتّزن، وليس الذكاء الاصطناعي بعيداً عن هذه المقولة.

* كاتب ومستشار قانوني

back to top