كان الغزو العراقي- الصدامي سنة 1990 صدمة كبرى لأستاذ اللغة الفرنسية في مدارس ثانويات الكويت، ندرة الكلاس الذي يروي في كتابه «مذکرات مدرس وافد» عن ذلك الحدث الجلل فيقول: «بدأنا العام الدراسي 1989- 1990 كالمعتاد بعد أن تعودت على حياة التدريس واليوم الدراسي، من حصص دراسية تتخللها استراحات وهكذا، وأصبحت السنوات تأتي وراء بعضها بشكل روتيني، فلقد تعودت على هذه المهنة، فكانت تبدأ كل سنة دراسية كسابقتها ثم تنتهي، وبالتدريس متعة ما وراءها متعة، فأنت تخرّج في كل مرة جيلاً جديدا، يترك الثانوية لينخرط في الحياة العامة، وابتدأ هذا العام الدراسي، ولم يكن أحد يدري ماذا تخبئ هذه السنة في آخرها. انتهى العام الدراسي كسابقه، وذهبنا في العطلة الصيفية إلى بلد إقامتنا بسورية في مدينة القصير، كنت أقضي عطلتي كالمعتاد، وقلما أسمع الراديو أو أشاهد التلفزيون أثناء العطلة، كنت في استراحة من عناء العمل عاماً دراسياً كاملاً وحراً في تصرفاتي.

وفي صبيحة الثاني من أغسطس (آب) 1990، أتى لعندي أخي الكبير عبدو، وهو متقاعد من الجيش اللبناني، ويتابع الأخبار يوميا، ليقضي أوقات فراغه، وقال لي: إن دولة الكويت قد احتُلت من قبل العراق.

Ad

ولخبرته السابقة في الجيش لأنه كان في السلك العسكري، أضاف قائلاً:

- احتلال عسكري ولن يخرج العراق من الكويت». (ص 56)

كم كان صعباً على الأستاذ ندرة أن يتقبل حدثاً كهذا أو أن يجد له مكاناً في حياته التي كانت قد استقرت على وتيرة معينة في مهنة التدريس والحياة في الكويت. يقول: «وابتدأت المعاناة، فما أصعب أن تكون مؤمَّناً بالحياة من الناحية المادية ولديك راتب ووظيفة دائمة ثم بلحظة لا تخطر على بال أحد، وغير متوقعة، تجد نفسك بدون عمل وبدون راتب، إن مصدر رزقك الوحيد قد انقطع، إضافة إلى ذلك، فالمفاهيم العامية والوطنية والقومية، قد انقلبت رأساً على عقب».

وتلقى ندرة ضربة أخرى، يضيف: «وفجأة صدر قرار من قبل قوات الاحتلال أو العراق بمساواة الدينار الكويتي بالدينار العراقى، أي أصبحت مدخراتي لا قيمة شرائية لها، وفقدت قيمتها». (ص61)

لم يكن ندرة وحيداً في هذه المعاناة بمدينة القصير السورية، إذ شملت الكارثة أساتذة آخرين، وفكر بعضهم بالعودة إلى الكويت لجلب أثاث بيوتهم وحاجياتهم، بعد أن أصبح الجو بارداً على أبواب الشتاء، ولم يكن لديه أى ثياب شتوية دافئة فكلها كانت بالشقة في الكويت، وهكذا ركب خمسة أساتذة «سوريين» سيارة أجرة «بعد أن تركنا سياراتنا التي تحمل اللوحات الكويتية في سورية»، ولكن الجمارك الأردنية أعادت ندرة - الذي يحمل جنسية لبنانية - إذ لا بد أن يحصل على تأشيرة للدخول!

ترك ندرة «رفاق الدرب»، وعاد إلى بيروت من الحدود، إلى بيروت الغربية. كان اليوم الأحد، ولا بد من أن يبيت في الفندق «لأن جميع السفارات في عطلة أسبوعية في بيروت»، حيث السفارة العراقية.

«ثم قال لي سائق أجرة السرفيس إنه لا يستطيع الدخول إلى أكثر من ذلك بعمق «بيروت الشرقية»، أي لا يستطيع الوصول لمكان السفارة العراقية، ثم قال لي: يوجد فندق قريب من هنا، أنزلك بقربه، فوافق ندرة، ودخل بعد قليل الفندق.

وللقارئ أن يتخيل حالة الأستاذ ومدى تحمله لظروف كهذه بعد يوم مرهق ودرب متعب واحتمالات بالغة السوء! فنزل الأستاذ من السيارة ودخل الفندق، وقال لموظفة الاستقبال: «أريد غرفة للغد، ما سعرها؟

- يوجد غرفة والسعر بالليلة الواحدة خمسين دولاراً. أجابت». يقول ندرة: «فكرت ملياً بالأمر، فكل الذي أملكه بحدود المئة دولار، ثانياً: كنت قد أصبحت بمتاهات وبوضع حرج ومأزق أمني صعب وخوف وصوت رصاص من بعيد، أي أنني شبه محاصر في هذا المكان، فلم أعد أستطيع الحراك من هنا نتيجة الخوف من الوضع الأمني خارجا، فبأي لحظة ممكن أن يندلع إطلاق النار من أي جهة كان، ويتم الاشتباك بين الفصائل المتحاربة».

لحسن حظه كان أحد أقاربه في الجيش، «العميد سليم كلاس»، وبعد جهد جهيد استطاع الاتصال به في وزارة الدفاع «شرحت للعميد سليم كلاس وضعي، وقلت له: أنا ابن عمك، ثم بكيت على وضعي وعلى حالتي في هذه اللحظة، بعد أن كنت مدرسا محترما وذا راتب عال، ولي مكانة اجتماعية مرموقة، أصبحت بوضع لا أحسد عليه، وضع محرج ومخيف أمنياً أيضاً، وأنا لم أتعود أن أعيش أجواء الحرب، لأني كنت بوظيفة مدنية، ولكن العميد بطيبته قال لي:

- أين أنت وأين مكانك؟

- إنني أتكلم من فندق COMFORT. شرحت له.

- بغضون عشرين دقيقة سوف تصلك سيارة جيب عسكرية وبها أربعة جنود مسلحين اصعد معهم لتأتي لعندي.

وهكذا صار، بعد عشرين دقيقة، أتت سيارة جيب عسكرية نزل منها جنديان مسلحان، ليتعرفا عليّ، ثم قال لي أحدهما:

-أنت ندرة كلاس؟

- نعم.

- اصعد معنا بالسيارة». (ص 68).