عن الاغتراب البيئي... مبادرة «نعمتي»

نشر في 24-01-2024
آخر تحديث 23-01-2024 | 19:48
 د. سلطان ماجد السالم

تحدثت في سابق الأيام عن الأثر البيئي السلبي للنفايات عموماً، وخصصت كذلك بسلسلة موسعة عن أنواع وعناصر النفايات المختلفة وأثرها البيئي أيضا، ولا يخفى على المتابع والقارئ الحذق هذا كله، وتحديداً مقالي المنشور في جريدة «الجريدة» في أكتوبر من عام 2021 المعنون بـ«وحشية الرأسمالية ونفايات الطعام» التي تكرمت (الجريدة) ذاتها بنشره من ضمن سلسلة مقالات فنية، والذي بينت فيه وفي أوج أزمة جائحة كورونا مثالب اللوجستيات وتراكم النفايات والفاقد والمهدر من الأطعمة كذلك، وكيف للبعض تفضيل إهدار الأطعمة عن توزيعها للمحتاجين أيضا.

نعم، ما زالت النفايات العضوية على مستوى دول الخليج العربي كافة تشكل قرابة النصف من الشق البلدي الصلب لها بأرقام تتجاوز الأطنان يوميا، وبشكل مستمر وبيّن للعيان في الإحصاءات المتاحة والموثقة.

وليكون المرء منصفا كذلك فقد تجاوبت الحكومة موخراً من خلال العديد من الأعمال واللجان الفنية ذات الاختصاص، وتحديداً من خلال وزارة التجارة بالتعاطي مع المهدر من الأطعمة في نظرة شمولية تعنى بسلاسل الإنتاج والإمداد وصولا إلى الاستخدام والنفايات الغذائية، كل هذا في أطر الأعمال التي تتماشى مع تحقيق (شيء) من الاستدامة والأمن الغذائي والاستغلال الأمثل للحيازات الزراعية وخلافه، ولا ينفك الأمر أن يرتبط بمسألة مهمة جداً، وهي دور المجتمع المدني وتفاعله وتطور خدماته من خلال الأعمال الخيرية والاجتماعية التي تساهم في الاستفادة من الأغذية والأطعمة من جانب في توزيعها على الأفراد المحتاجين، وتقليل وصول النفايات من المصادر إلى مصارفها ومكباتها.

وأستذكر هنا الأعمال الخيرية التي جبل عليها أبناء دولة الكويت كالأوقاف الخيرية والمبادرات الإنسانية (وقف آل العيسى الكرام على سبيل المثال لا الحصر) التي تسهم في تعزيز النواحي الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية كذلك، والتي تستحق الإشادة لا محالة بل الدعم كل الدعم من الدولة والمعنيين، وإذا ما كانت هذه الأعمال الخيرية متاحة ومتوافرة وما زلنا ننتج (على أقل تقدير) 400 ألف طن سنوياً من مهدر الأطعمة المنزلية (لا النفايات العضوية البلدية بجلها) فإن ذلك لعمري مؤشر حقيقي على أننا ما زلنا بحاجة إلى العمل الدؤوب والمستمر في استغلال سلسلة إنتاج النفايات العضوية كاملة، للاستفادة منها وتقليل آثارها كذلك.

ومن موقعي ومن خلال زيارة ميدانية أيضا، وجدت بصيص أمل يلوح في الأفق من مشروع خيري ومبادرة مجتمعية توسعت لتأخذ صبغتها واسمها ومكانتها المستحقة، وذلك على شكل مبادرة «نعمتي» التي تحمل شعاراً جميلاً (احفظها من الزوال) ومقرها منطقة فهد الأحمد التي تزاول أعمالها الآن كشركة في مجال اختصاصها، وكسائر المبادرين والمبدعين والمهتمين كان للسيد أبي يوسف (محمد المزيني) وفريقه فكر مختلف ومغاير لذاك الاعتيادي، فحاول وبادر وصارع الى أن ثبت اسمه في صدارة الأعمال الخيرية التي تتعلق (في رأيي الشخصي) بالنواحي البيئية كما تعنى بالعمل الخيري، فتلك المبادرة وفي وقتها الآني تشرف على تجميع فوائض الأطعمة والمواد الغذائية الاستهلاكية قبيل انتهاء صلاحيتها من الأسواق ورحلات الطيران وتبرعات من تجار الخير أصحاب الأيادي البيضاء ومصادر عدة لإيصالها للمحتاجين والأسر المتعففة قبيل أن تهدر ويتنافى الأصل من توافرها.

قامت «نعمتي» منذ فبراير 2021 إلى سبتمبر 2023 بإيصال سلالها ومساعداتها إلى ما يفوق 4.500 أسرة في الكويت، ولعل هذا لوحده سبب في دعمها وجعلها مثالاً يحتذى به لقطاعات الدولة كافة، فالنعم تزول وبسهولة وتستوجب الشكر والحمد للبارئ عزوجل، بل السعي والعمل وبذل الأسباب لتدوم وتحفظ أيضا.

كما حافظت المبادرة ذاتها وفي الفترة الزمنية نفسها على ما يفوق 1300 طن من المواد الغذائية التي كانت ستتراكم على شكل نفايات مهدرة للطعام ذات أثر مقاس بقيمة تقارب التسعة ملايين ونصف المليون دينار كويتي بدلالة واضحة على جودة الغذاء أيضا، وبقيمة سوقية تقارب المليونين ونصف المليون دينار كويتي كذلك، فلك أن تتخيل عزيزي القارئ جهود فريق «نعمتي» من جانب والكميات المهولة التي تم التعامل معها وحفظها من جانب آخر، كذلك من خلال تحضير 43 ألف سلة غذائية بالتعاون مع ما يقارب 1650 متطوعا أيضا، كما تم التعامل مع ما يفوق الـ120 ألف وجبة غذائية من خدمات الطيران أيضا، وهو أمر يوسع (من المفترض) مدارك المسؤولين عن هذا الهدر ومصارفه كذلك.

كما تجدر الإشارة إلى أن لـ«نعمتي» أثراً ملموساً في المسار التربوي والتوعوي أيضا على مستوى الكويت، فقد كان لها تعاون مع وزارة التربية في طرح المشاريع والمسابقات والأعمال التوعوية التي تخدم وتساهم في رؤية الكويت 2035 ومنها مسابقة حفظ النعمة التي نتج عنها توعية عدد مهول يقدر بأكثر من 12000 من متعلمي المرحلة الثانوية داخل المدارس والمعلمين وعموم أفراد المجتمع عن قيمة حفظ النعمة.

كما أتذكر شخصيا منذ قرابة العام مشاركتي ضمن أعمال مسابقة «نسيمات الخزامى» في المضمون نفسه في ثانوية الجزائر للبنات، كما كُرمت مبادرة «نعمتي» من العديد من الجهات المحلية والإقليمية كاختيارها ممثلا وحيداً عن المبادرات العربية في الحملة الإعلامية في حملة (لا نملك سوى أرض واحدة) أو ONLY ONE EARTH في اليوم العالمي للبيئة الذي حددته الأمم المتحدة بتاريخ 5 من شهر يونيو عام 2022.

كما كرمت من قبل المكتب التنفيذي للتنسيق بين دول مجلس التعاون الخليجي برعاية الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي التي قامت بدورها بتكريم مبادرة «نعمتي» في العاصمة العمانية (مسقط) كمبادرة رائدة وبحضور وزير الشؤون الاجتماعية والعمل الشيخ فراس المالك الصباح.

كل ما سبق ذكره من أعمال متعلقة بـ«نعمتي» قد يكون من جانب تسليط الضوء على أعمالها وجهودها في الدولة، لكن المهم والأهم هنا هو الأخذ بيد المبادرين ومثيلات هذه الأعمال من قبل الدولة وعلى مستوى مؤسسي أيضا، لتتوسع أكثر وأكثر، ويكون لها الأثر الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الأكبر، ففي نهاية المطاف تظل «نعمتي» مثالاً بارزاً، ولكن هناك طفرة اقتصادية وتوسع عمراني ونمو سكاني مرتقب في الدولة وجب على الحكومة أن تلتفت إليه، وتدرس وقعه وأثره البيئي أيضا، وتعرف إجابة السؤال التالي ذكره: كيف لي أن أقلل المهدر من الطعام تماشيا مع الخطط المستقبلية للدولة مع تعزيز الاستفادة الاقتصادية القصوى لها؟!! وأختم بالشعار ذاته المشار إليه سابقا «احفظوها من الزوال».

back to top