عبدالله الصالح... ورطة في مطار بنغازي! (5 من 5)

نشر في 24-01-2024
آخر تحديث 23-01-2024 | 19:47
 خليل علي حيدر

كانت ليبيا «القذافي» ضمن الدول التي شهدت بعض اللقاءات العربية التي شارك فيها وفد الكويت مع وفودٍ عربية أخرى، في مؤتمر العمل العربي في «بنغازي»، خلال مارس 1981 على امتداد عشرة أيام! وكانت بعض المؤتمرات تمتد فيما يبدو كالأعراس في المشرق لأيام وأسابيع، وكأن الوفود تجتمع خارج التاريخ، ولا علاقة لها بالزمان أو المكان، كما كانت أيام هذا المؤتمر، كما يصفها ممثل الكويت- عبدالله الصالح– «أياماً مشحونة بالعمل والصراع وأحياناً بالصراخ!»

وبالرغم من أن مكان المؤتمر على مقربة مما كان يسمى «النهر العظيم»، أحد مشاريع «القذافي» العالية التكلفة التي لا يعرف مصيرها منذ الإطاحة بدكتاتور طرابلس خلال «الربيع العربي»، فإنه حتى ماء الشرب لم يكن متوافراً بالشكل المطلوب!! يوضح ذلك «الصالح» قائلاً: «فالموجود كله مياه معدنية أو غازية لا يمكن أن تروي ظمأ العطشان، وإن المياه المتوافرة في أنابيب الفندق مياه مالحة لا تصلح للشرب الآدمي، بل إنك تستطيع أن تشاهد بوضوح خطوط الملح وهي تشكل خريطة للطرق السريعة على الحنفيات ومرشات السباحة في الحمامات». (ص112).

من مفاجآت ليبيا في ذلك الزمان تلك التي يوردها الصالح في مذكراته فيقول إنه جلس وأحد أصحاب الأعمال في وفد الكويت «عقيل الجاسم» في المقعد الخلفي لإحدى سيارات المؤتمر، وبعد طول انتظار قال لهما السائق بنبرة حادة: «آسف لا يمكن أن أتحرك ما لم يتقدم أحدكم فيجلس معي في المقعد الأمامي!! قلت له: لماذا يا أخي هذا الطلب، إننا نريد أن نتحاور ونتشاور في أمر حيوي سيناقشه المؤتمر بعد قليل؟ قال بثقة المدرك العارف: هذا لا يعنيني في شيء!! ألم تقرأ الكتاب الأخضر؟ قلت له: لقد تصفحت هذا الكتاب ولم أجد فيه غير الشعارات، استدار بوجهه نحونا، وقال: هذا غير صحيح، والدليل أنني لم أتحرك من مكاني حين طلبتم مني ذلك، وهذا الموقف تطبيق عملي واستجابة صريحة لما ورد في الكتاب الأخضر، بأننا شركاء لا أجراء».

واستطاع عبدالله الصالح بالكثير من الصبر والمدارة أن يقنع السائق بأن الأجير ليس عبداً مطلقاً وبشكل دائم، «بل هو عبد» مؤقت، وعبوديته قائمة بقيامه بعمله مقابل أجر من صاحب العمل ومضى الصالح يقول للسائق: «ونحن يا أخي لم نستأجرك، ولسنا صاحبي العمل، وبالتالي: فإنك لست أجيراً أو شبه عبد لنا... إننا في ضيافة حكومة جماهيرية وهي التي استأجرتك، وهي المسؤولة عن عبوديتك!!».

جلس «العقيل» بجانب السائق، ومضى عبدالله الصالح في مساعيه لتلطيف الجو وسأل السائق الليبي: هل هذه السيارة ملك لك أم أنك تعمل أجيراً عليها؟ وبدا للصالح والعقيل أنهما أمام تفاصيل جديدة في تطبيق نظريات القذافي! أجاب السائق بحالة من التباهي: «كنت أجيراً على هذه السيارة من نحو سنتين، وهي كما ترى من نوع B.M.W الغالية الثمن، لكن ما إن وقع نظري على الفقرة التي تقول: شركاء لا أجراء في الكتاب الأخضر، حتى توجهت– فوراً- لصاحب السيارة ومالكها، قلت له بالحرف الواحد: أنت تعرف أنني عملت أجيراً على هذه السيارة مدة طويلة، واليوم قررت أن أزحف عليها وأمتلكها، لكوني أولى بها من غيري، ولكونك تملك غيرها، ولا تعمل عليها أيضاً، قال برحابة صدر: بارك الله لك وحلال عليك!! وهكذا أصبحت السيارة ملكا لي بعد أن أبلغت اللجنة الشعبية المعنية بالقرار الذي أقدمت عليه، والتي استجابت مشكورة لقراري بكل سرور!! ومنذ تلك اللحظة أصبحت واحداً من الشركاء، وليس أجيراً أعمل لدى الغير!!». (ص114).

رصد عبدالله الصالح في ذكرياته موقفاً طريفاً آخر، جرى هذه المرة في صالة مطار بنغازي بعد انتهاء المؤتمر، حيث كان من المقرر أن يسافر الصالح مع صديقه الشاعر إلى باريس بفرنسا، للاستراحة بعد متاعب ووعثاء مؤتمر بنغازي! وقد كان الحفل الختامي للمؤتمر مملاً في معظم فقراته ما عدا قصيدة هذا الشاعر القومية التي كانت تدعو إلى الوحدة ولمّ الشمل من المحيط إلى الخليج، وكانت «مشحونة بعبارات التزلف والنفاق للجماهيرية ورئيسها وللكتاب الأخضر والنهر العظيم»، ويضيف عبدالله الصالح: «أقول: كانت القصيدة الشعرية أجمل فقرات الحفل، والتي استغرقت أكثر من نصف ساعة بسبب الأصوات التي كانت تتعالى– بين الحين والآخر- من الحضور، مقاطعة إياه بإعادة بيت من القصيدة أثار شجونهم، أو إشارة بالمديح للرئيس «معمر القذافي» أو الثناء على النظام وهذه حالة عربية مزمنة في مثل هذه المناسبات!!».

حصل الشاعر على هدية خاصة (جهاز فيديو) من الرئيس القذافي بعد أن استمع إلى تلك القصيدة الحماسية، وفي يوم السفر حملوا الهدية الرئاسية مع الحقائب إلى المطار برفقة مرافق لتسهيل مهمة السفر، إلا أن المهمة لم تكن سهلة وميسرة على الإطلاق.

خطف مفتش المطار جهاز الفيديو من بين الأمتعة وركنه جانباً ليفرض عليه رسوم تصدير بلغت خمسين ديناراً ليبياً بقيمة الدينار الليبي في ذلك الزمان باسم اللجنة الشعبية المشرفة على مرفق المطار.

وهنا جرى حوار مدهش طريف، يقول الصالح: «قلت للمفتش من باب التوضيح إن هذا الجهاز هدية تلقاها زميلي الأديب الشاعر اللبناني «معروف سويّد» من مكتب الأخ الرئيس معمر القذافي».

أجابني بسرعة وثقة: «أخي هذا الأمر لا يعنيني بشيء!! فأنا هنا أنفذ قرارات اللجنة الشعبية التي تتولى إدارة المطار، وليس قرارات الأخ الرئيس، عليكم بخمسين ديناراً، ورافقتكم السلامة، قلت له معاتباً: نحن وفد رسمي، وفي ضيافتكم، قال بإصرار شديد: وهذا أيضاً لا يعفيكم من سداد الرسوم، قلت له بعد أن تشاورت مع الرفيق: إذاً دع المرافق الذي اتخذ وقتها ركناً قصياً، يأخذ الجهاز ويعود به إلى مكتب الرئيس، قال الموظف بحزم شديد: عيب... هذا لا يجوز، فالهدية لا تُرد وهي ليست من شيم العرب!! قلت له: إذاً اعفنا من الرسوم قبل أن يسرقنا الوقت، قال: وهذا أيضاً عيب ولا يجوز، لأن عدم دفع الرسوم- مهما كان مقدارها- يعني سرقة المال العام وأنا لا أقبل بذلك حتى لو كانت فيها نهايتي الوظيفية، التي هي لقمة عيشي». (ص117). وبالفعل تم دفع المبلغ كاملاً للموظف، عدّاً ونقداً!

أتمنى أن يقوم الأستاذ عبدالله الصالح بكتابة مذكراته عن مؤتمرات العمل العربي العديدة التي حضرها وشاركت الكويت فيها.

back to top