«الرواية الإسرائيلية» تترنح تحت ضغط أدوات الاقتصاد

«السوشيال ميديا» والمقاطعة التجارية صاغتا وعياً عاماً جديداً ضد الاحتلال
• اقتصاد إسرائيل يعاني تداعيات «الطوفان»... وعمليات البحر الأحمر زادت المشهد تعقيداً

نشر في 11-01-2024
آخر تحديث 10-01-2024 | 18:46
محمد البغلي
محمد البغلي

مع تجاوز الحرب في غزة شهرها الثالث، كواحدة من أبرز المآسي الإنسانية في العصر الحديث، برز دور أدوات الاقتصاد في استقطاب الرأي العام وصناعة التأثير ليس في المنطقة العربية فقط، بل أيضاً في العديد من المناطق التي لم تعرف في تاريخها صراعاً عربياً - إسرائيلياً، وكانت في غالب الوقت منحازة للرواية الإسرائيلية أو الصهيونية، إذ أسهمت هذه الأدوات الاقتصادية الجديدة وأهمها مواقع التواصل (السوشيال ميديا) وحملات المقاطعة لسلع الشركات الداعمة للاحتلال أو عملياته العسكرية والاستيطانية في إعادة تعريف العديد من المفاهيم الخاصة بالقضية الفلسطينية، خصوصاً مع تنامي شغف الشباب الأصغر سناً بالبحث عن الحقيقة.

تفاعل المنصات

وما إن انطلقت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي، حتى فرضت القضية الفلسطينية نفسها على منصات التواصل، مثل «تويتر» (إكس حالياً) أو «إنستغرام» أو «توك توك» أو «فيسبوك»، وغيرها من المنصات في مختلف دول العالم، بهدف الفوز بالتأثير وجذب الرأي العام العالمي، وهو ما مثّل هزّة غير معتادة للرواية الصهيونية التي ظلت لعقود تفرض نفسها على مختلف وسائل الإعلام الأميركية والعالمية، حيث تشير دراسة صدرت في ديسمبر الماضي عن مجلة بوليتيكو الأميركية الى أن المنظمات الصهيونية اضطرت لإنفاق ما يوازي 100 ضعف ما أنفقته المجموعات الفلسطينية على الدعاية في وسائل التواصل، وأن الوسوم المؤيدة لفلسطين في العديد من المنصات أكثر شعبية من الوسوم الداعمة للاحتلال، مشيرة إلى أن جيل الشباب في الولايات المتحدة غير مقتنع بروايات الصهاينة عن فلسطين.

الأجيال الشابة

وبالطبع هذه ليست المرة الأولى التي تؤدي فيها وسائل التواصل دوراً محورياً في صياغة الرأي العام العالمي، فقد حدث ذلك خصوصاً من خلال «إكس» خلال جائحة كورونا، والانتخابات الأميركية عام 2020، وترقّب انتخابات 2024، ومتابعة مونديال قطر 2022، والحرب الروسية - الأوكرانية، إلا أن هذه المرة - رغم محاولات بعضها تقويض خوارزميات الانتشار، خصوصاً المناهضة لإسرائيل - كشفت عن تحوّل أو ربما انقلاب في مفاهيم الأجيال الشابة حول العالم، لا سيما في إعادة «البحث عن الحقيقة» تجاه القضية الفلسطينية وتاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، وهو أمر دفع العديد من الكيانات الصهيونية في أوروبا والولايات المتحدة للقيام بعمليات «غسل سمعة» عبر التعاقد مع شركات علاقات عامة ومكاتب محاماة، بهدف تبرير الهجمات على مستشفيات ومنازل ومدنيي غزة بأنها ضمن حملة ما يسمّى بمكافحة الإرهاب، فضلاً عن الملاحقة القضائية بتهم العنصرية ومعاداة السامية لمن يدحض «الرواية الإسرائيلية».

أثر المقاطعة

أدت المقاطعة التجارية تجاه الشركات الداعمة أو المتعاطفة مع إسرائيل دوراً مهماً خلال الحرب في غزة، حيث أسهمت في خلق حالة من التفاعل والدعم تجاه القضية الفلسطينية على نحو غير مسبوق، مقارنة بأي حملة مقاطعة أخرى، فرغم أن هذه الحملة تركّزت في بدايتها بمنطقة الشرق الأوسط، إلا أنها سرعان ما انتشرت - مع الاستغلال الحصيف لوسائل التواصل - إلى مناطق لم يتوقّعها أكثر المتفائلين عند بدء المقاطعة، بالتزامن مع بداية «طوفان الأقصى»، إذ وصلت آثارها الى خيارات المستثمرين في بورصات وول ستريت.

ومع أن الشركات الداعمة أو المتعاطفة مع الاحتلال الإسرائيلي عديدة، إلا أن أكبر المتضررين من الحملة كانت سلسلتا «ستاربكس» و«ماكدونالدز»، ربما لأن العديد يعتبرهما رمزاً «للثقافة الاستهلاكية الأميركية»، خصوصاً بعد أن رفعت «ستاربكس» دعوى قضائية ضد نقابتها العمالية، التي عبّرت، في بيان لها، عن تضامنها مع الفلسطينيين، في حين واجهت «ماكدونالدز» انتقادات واسعة بعد إعلان أحد مشغلي سلسلة المطاعم المعروفة في إسرائيل عن تقديم وجبات مجانية لأفراد الجيش الإسرائيلي.

ولعل إعلان رئيسَي الشركتين، «ستاربكس» و«ماكدونالدز» العالميتين، عن تعرّضهما لحملات مقاطعة وانتقاد أدّيا الى تأثر الأعمال، وبالتالي تراجع القيمة السوقية لكلا السهمين بما يعادل 20 مليار دولار، وهو مؤشر قياس بقدر ما هو قصير المدى، لكن يعبّر عن درجة تأثير المقاطعة، التي لم يتخيّل أحد أنها ستتجاوز منطقة الشرق الأوسط - حيث أعلنت العديد من الشركات مراجعة أعمالها في المنطقة - إلى البورصات العالمية.

آثار اقتصادية

ولعل الحديث عن «طوفان الأقصى» يفتح الباب لمناقشة الآثار الاقتصادية للعملية على الاحتلال، خصوصاً مع تجاوز الحرب شهرها الثالث، إذ كشفت البيانات الرسمية، الصادرة عن وزارة المالية الإسرائيلية، عن اقتراض تل أبيب نحو 8 مليارات دولار بأسعار فائدة أعلى من الأسواق الدولية لتغطية نفقات الحرب العسكرية والاقتصادية، إلى جانب نمو العجز مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي بـ 3.4 بالمئة في نوفمبر، مقابل 2.6 بالمئة في أكتوبر الماضي، فضلاً عن تعرّض عملة الشيكل لضغوط غير مسبوقة أجبرت بنك إسرائيل المركزي على بيع احتياطيات نقد أجنبي بقيمة 8.2 مليارات دولار للتدخل في سوق الصرف وحماية العملة من التدهور، فضلاً عن رفع توقعات حكومية رسمية تكاليف الحرب من 51 مليار دولار إلى 58 ملياراً، بفرضية استمرار الحرب لمدة عام على جبهة واحدة فقط، هي غزة.

وليس من المبالغة القول إن هذه الأوضاع أعلاه انعكست سلباً على مختلف أوجه النشاط الاقتصادي في إسرائيل، خصوصاً على قطاعات الإنتاج والتمويل والأعمال، كالتجارة والصناعة والتكنولوجيا والسياحة وأسواق المال والبنوك والمشاريع الصغيرة، وهو ما جعل محافظ بنك إسرائيل المركزي يدعو إلى تعديل ميزانية عام 2024 بهدف خفض النفقات، وفقاً لظروف الحرب، أو أن الاقتصاد سيتعرّض لضربة قوية.

وفي ظل هذه الأوضاع الإسرائيلية الاقتصادية القاتمة جاءت العمليات في البحر الأحمر لتزيد المشهد تعقيداً على إسرئيل، فبعد إعلان «الجماعة الحوثية» استهدافها السفن المتجهة نحو دولة الاحتلال، مروراً من مضيق باب المندب، هوت أعمال المناولة والشحن في الميناء الإسرائيلي البديل، أي ميناء إيلات الذي كانت تل أبيب تعوّل عليه كبديل عن مخاطر صواريخ المقاومة الفلسطينية على موانئ إسرائيل في البحر الأبيض المتوسط، وأبرزها ميناء أسدود.

ويمثّل البحر الأحمر، عبر نافذته قناة السويس، شريانا أساسياً للتجارة الدولية، فمن خلاله يمر نحو 8 بالمئة من إمدادات النفط العالمية و12 بالمئة من حجم التجارة الدولية، وقد أدت العمليات إلى تصاعد المخاطر في هذا الشريان الحيوي، وأعلنت شركات شحن عالمية كبرى، مثل «ميرسك» و«هاباغ لويد» و«لينيوس فيلهلمسن» و«كوسكو»، تحوير مسارها منه إلى رأس الرجاء الصالح، جنوب الكرة الأرضية، بكل ما يرتبط بذلك من تكاليف تشغيل ووقود وتأخير، بالتوازي مع تشكيل قوات دولية بقيادة الولايات المتحدة، بهدف الحد من هجمات الحوثيين، وكل هذه الأوضاع - في سياقها الاقتصادي - تزيد الضغط على تل أبيب، لوقف أو تقويض عملياتها العسكرية، بما تحتويه من تهجير قسري أو إبادة جماعية ضد أهل غزة.

ذكاء واحترافية

وليس غريباً أن يكون لأي حرب تداعيات اقتصادية، بل إن الاقتصاد على مر التاريخ كان أحد مسببات الحروب، لكن في حرب غزة ثمّة ذكاء واحترافية في توظيف أدوات الاقتصاد لمصلحة خدمة القضية، من خلال استخدام السوشيال ميديا لتكوين رأي عام جديد، والمقاطعة كأداة ضغط، فضلاً عن رفع الكلفة الاقتصادية من خلال الحرب والعمليات المساندة في البحر الأحمر.

back to top