الذكاء الاصطناعي... يقتحم السلطة الرابعة

نشر في 11-12-2023
آخر تحديث 10-12-2023 | 18:47
 فوزية أبل

أن يفرض الذكاء الاصطناعي نفسه في مجال الصناعة والتكنولوجيا الرقمية، فهذا أمر أصبح واقعاً وقريباً من أن يتعايش الإنسان معه ويقبل بوجوده، على الرغم مما يشكله وجوده من حالة تنافس ومزاحمة في مجال العمل، أما أن يقتحم ذلك الضيف الثقيل مجال الفكر الإنساني وينافس الإنسان في إنتاجه الفكري والأدبي، فهذا ما لا يقبل به الإنسان ويعتبره تجاوزاً لكل الحدود التي تخطتها التكنولوجيا الرقمية، وهو ما يفرض مواجهتها ووضع حد لها لا تتجاوزه.

ومن ردود الفعل تجاه هذا الاقتحام الرقمي المرفوض ما نقرؤه ونشاهده يومياً، من أخبار عن مظاهرات واحتجاجات في عدد من دول العالم ضد هذا المنافس المزعج الذي اقتحم حتى مجال الفكر الإنساني، ولعل ما شهدته الولايات المتحدة الأميركية، منذ فترة من مظاهرات للمؤلفين والممثلين لدعم الكتّاب ضد تعديات الذكاء الاصطناعي، كي لا يعتمد المنتجون عليه في كتابة الأفلام والمسلسلات بدلاً من الكتّاب، لتوفير النفقات، وهو أمر أوجد انقساماً في العالم تجاه هذه التقنية، ففي حين هناك من يؤيدها كونها طفرة جديدة في مجال التكنولوجيا، نجد الكثيرين من المعارضين الذين يعبرون عن رفضهم لأنها تهدد وظائفهم وأرزاقهم، وإذا كان الأمر بهذه السهولة، من اقتحام الذكاء الاصطناعي للفكر البشري والتأليف، فهل بدأ العد التنازلي لوداع مهنتنا كصحافيين، في ظل مؤشرات قوية لاقتحامه هذا المجال؟

وفقاً لشركة أبحاث الذكاء الاصطناعي «أوبن أيه آي»، فإن تطبيق «تشات جي بي تي 4»، أصبح قادراً بالفعل على القيام بمهنة المؤلف... فهو يكتب النص ويقوم بتحريره، فيما سيتمكن من تولّي الكتابة الإبداعية والتقنية في المستقبل القريب، مثل تأليف الأغاني أو كتابة السيناريوهات، فهو سيتعلم أسلوب المؤلف، ثم يقوم هو بتأليف كل ما يحتاج إليه من نصوص وكأنه من صنع العمل الفني من الألف إلى الياء!

ولا ينحصر دور «شات جي بي تي 4» في القيام بمهنة المؤلف، فهو يستطيع أن يكون صحافياً أيضاً، لأنه قادر على القيام ببحث ممتاز بشكل سريع ونتائج دقيقة، وفي أي موضوع يحتاجه المستخدم، كما أنه يحلل ويكتب المقالات ويختصر عدد الكلمات وفقاً للحاجة، وبذلك تكون صناعة الموضوع الصحافي بسيطة وسهلة ولا تحتاج إلا لدقائق معدودة لتكون جاهزة وصالحة للنشر.

ويجري «شات جي بي تي 4» مقابلات ممتازة مع المصادر، لأنه قادر على وضع الأسئلة وقراءة المشهد الذي يوجد فيه الصحافي، فيستطيع خلق أسئلة للمتابعة تسهّل عمل الصحافي، بالإضافة إلى أنه يوضح للصحافي جميع المقابلات التي أجراها المصدر من قبل، بجانب المقالات التي كتبها، حتى يكون الصحافي ملماً بالشخص الذي يتحدث معه.

وبسبب هذه المميزات، استغلت صحف عالمية كبرى الذكاء الصناعي في صالات تحريرها، مثل «الأسوشييتد برس» و«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«رويترز»، منذ سنوات طويلة، كما استخدمته «بلومبرغ» ليقوم بتحليل ونشر وكتابة التقارير المالية، بكل سهولة ووضوح لقرائها، أما صحيفة «ديلي ميرور» و«ديلي إكسبرس» ذات الموضوعات الخفيفة، فقد قامتا باستخدام الذكاء الاصطناعي لأول مرة في شهر مارس الماضي، فهل هذا التدرج في استخدام الذكاء الاصطناعي سيجعله بديلاً للصحافي قريباً؟ شخصياً، لا أرى أن ذلك سيحدث في أي عقد قريب، فوفقاً للمعلومات التي يتم تداولها فإن لدى الذكاء الاصطناعي مشكلات عدة وخطيرة، أهمها تزييف الحقائق والمعلومات، ولديه خاصية اسمها «التزييف العميق»... والجواب يعرف من عنوانه، فإذا كانت هذه خاصية من خصائصه فكيف للصحافي والجمهور بشكل عام أن يتأكد من صحة المعلومات التي سيقدمها له على أنها معلومات دقيقة؟

وتستخدم بعض المواقع الذكاء الاصطناعي أيضاً لتختلق توصيات كاذبة لبعض السلع والخدمات، مما يجعله بالنسبة إليهم أداة للربح السريع، وهذا بالطبع لا يخدم الصحافة في شيء، ولهذه العيوب تحديداً التي تتنافى مع مهنة الصحافة التي تقدم الواقع والمعلومات الدقيقة الصحيحة للقراء، ستظل يد الإنسان الواعي العليا فوق يد الآلة.

ولكن هذا لا يمنعنا من قول الحقيقة، وهي أن الصحافة تواجه تحديات تكنولوجية كثيرة، تجبر العاملين فيها على الإلمام بها والتمكن منها، حتى يستطيعوا الصمود وخوض السباق، على الأقل من دون خسارة كبيرة. وخلاصة القول إنه مهما حقق التقدم التكنولوجي من قفزات هائلة في مجال التحول الرقمي، واستحداث الذكاء الاصطناعي ليحل محل «البشري» فإن هناك خيطاً رفيعاً لا يمكن تجاوزه في إحلال «الروبوت» مكان الإنسان. وعلى الرغم من الطفرات الكبيرة في استخدامات الذكاء الاصطناعي، واستحداث الروبوتات التي تقوم بمهام معقدة، قد لا يستطيع الكثير من البشر فعلها، فإن هناك حداً لا يمكن للروبوت أن يصل إليه في الحلول مكان العقل البشري، ويكفي أن هذا الأخير هو الذي صنعه!

back to top