من الكوفية إلى مسافة صفر

نشر في 10-12-2023
آخر تحديث 09-12-2023 | 18:53
 د. بلال عقل الصنديد

للرموز الدينية والوطنية والإنسانية أهمية خاصة في وجدان الشعوب والدول، وهي تتمتع بجرعة معتبرة من التبجيل والاحترام، كونها تمثل مبادئ وأفكاراً مشتركة وتعكس الهوية الوطنية والموروث الثقافي والحضاري، وترتبط عضوياً بالقيم الإنسانية والأخلاقية والفضائل، وتساهم في تعزيز الوحدة الوطنية والشعور بالانتماء، وتساعد في بناء مجتمع متماسك يستلهم من تاريخه أمجاداً تمتّن أواصر الحاضر وتفتح آفاقاً واعدة للمستقبل.

وفي هذا السياق تشّكل الكوفية التي ستر فيها المناضلون الفلسطينيون وجوههم عن المتربصين بهم من الأعداء والعملاء، وحمتهم من قساوة الحر وبأس القرّ، أبرز وأهم الرموز المرتبطة بالقضية الفلسطينية وبنضال الشعب الفلسطيني الممتد لأكثر من خمسة وسبعين عاماً تحت شعارات مختلفة وبصور متعددة.

وبصرف النظر عمّا يقال عن أصول هذا «الشماخ» ونسبته الى الحضارة السومرية ودلالاته المرتبطة بشباك الصيد وأمواج البحر، فإن ارتداء الكوفية برمزيتها وألوانها المعاصرة، أو التوشح بها أصبح اليوم تعبيراً صريحاً عن تأييد القضية الفلسطينية ورسالة سلمية موجّهة الى العالم للفت نظره الى الغطرسة الإسرائيلية واعتداءاته المخالفة لكل الشرائع الدينية والوضعية.

ولعل هذا ما يشرح سبب الحساسية المفرطة التي تتعامل من خلالها بعض الدول والشعوب المعادية للقضية الفلسطينية مع غطاء الرأس هذا، بحذر ارتدائه حيناً وبمضايقة من يرتديه غالباً، الأمر الذي تعبّر عنه أجهزة الكيان الصهيوني المدنية والعسكرية والإعلامية في كل زمان ومكان محاولة بشتى الطرق تهميش الكوفية الفلسطينية وترويج ارتباطها بالإرهاب، مما دفع الشرفاء من العرب والفلسطينيين إلى التمسك بها أكثر، وهذا ما فعله الوفد الرياضي الكويتي الذي توشّح بالكوفية في ختام دورة الألعاب الآسيوية الـ19 في شهر أكتوبر الفائت، مؤكداً على الالتزام الكويتي الدائم بالقضايا العربية والإنسانية المحقّة.

***

ورغم تربع الكوفية على رأس قائمة الرموز الفلسطينية، يبقى للصور والمجسمات والرسومات الدّالة على «قبة الصخرة» الذهبية، وعلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة رمزياتها الدينية والدنيوية، وهكذا الحال فيما يخص شجرة الزيتون المباركة، وشخصية «حنظلة» الكاريكاتورية التي منذ أن رسمها الفنان الفلسطيني ناجي العلي في عام 1969 أصبحت تعبيراً عن معاناة الطفولة الفلسطينية من الاحتلال وعدوانه.

ولا ننسى في السياق العلم الفلسطيني الذي ترتبط رمزية ألوانه في العصر الحالي بالقضية الفلسطينية ونضالات الشعب الفلسطيني، إذ يشير اللون الأسود فيه إلى الحداد على شهداء الظلم والاضطهاد والتعسف ويعني الليل المظلم الذي يلف آفاق فلسطين الجريحة والصمت الذي يكفّن ضحكة الصغار ويكمّم أفواههم الصغيرة، ويعني اللون الأبيض السلام المبتغى والمحبة التي هي رسالة الأنبياء الذين بعثوا على أرض فلسطين، أما الأخضر فهو تذكير بربوع وسهول أرض فلسطين الخضراء ويعني الخير والنماء والبركة والأمل بالمستقبل، ويبقى الأحمر فاقعاً بلون الدم المرتبط بالشهادة والتضحية والعطاء والدفاع عن الأرض والعرض والدين.

***

وها هو أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم حركة حركة حماس، يصبح بكوفيته التي تستر وجهه وأصبعه الذي يرفعه وعيداً وتهديداً، رمزاً من رموز مقاومة أهالي «غزّة» للتوغل الإسرائيلي في القطاع وعدوانه الشرس على المدنيين الآمنين، وها هي المسافة «صفر» و«المثلث الأحمر» يبرزان من قلب المعاناة ومن لهيب النار ليخلّدا كرمزين جديدين من رموز النضال الفلسطيني المشرّف ضد غطرسة الاحتلال المدجّج بأعتى وأغلى أدوات القتل والتدمير على مستوى العالم.

يشير «المثلث الأحمر» في المقاطع المصوّرة التي تبثها الوحدات الإعلامية للفصائل الفلسطينية المقاتلة إلى الجنود والآليات والمنشآت العسكرية الإسرائيلية التي يدكّها رجال المقاومة من مسافة «صفر» التي تدخل وفق الخبراء العسكريين ضمن المستوى الثالث من «قتال المدن»، حيث تضطر القوات المتقاتلة إلى المواجهة المباشرة بعد استنفاد كل المراحل من القصف بعيد المدى إلى تبادل إطلاق النار من مسافات متوسطة، انتهاء بالمرحلة الأخيرة التي تفرض على الطرفين وجوب الاقتحام أو الالتحام.

لكن المسافة «صفر» في غزّة، غيّرت المعادلات العسكرية المعروفة وناقضت كل التعريفات التقليدية، وصارت تشير إلى شجاعة المقاتل الفلسطيني، الذي أثبتت الصور والفيديوهات أنه- بقدمين حافيتين وبرباطة جأش استثنائية- يقدم من طرف واحد إلى الالتحام بجنود جيش جرّار يتمترسون خلف أحدث وسائل الوقاية!

والحقيقة أنه لا عاصم للأعداء من أمر الله ولا من جنوده المؤمنين الصادقين الذين صنعت منهم ظروف الاحتلال وخناق الحصار وجور الظلم والاضطهاد مناضلين مقاتلين، وحوّلتهم الى طالبي النصر أو الشهادة.

***

وفي الحديث عن رمزية الأشياء، أختم بقصة وملاحظة، كليهما يرتبطان بالقضية الفلسطينية ويدلّلان على نمط متجذر من التفكير والتصرف.

فحين كنت طالباً في فرنسا، وفي حين كان الآلاف من العرب والمسلمين يشاركون في مظاهرة حاشدة لدعم «انتفاضة الأقصى»، لاحظت في إحدى الزوايا القريبة من مكان الحشد وجود رجل- لا تبدو على محيّاه الأصول العربية- يبيع العلم الفلسطيني بسعر مناسب للجميع، وعندما توجهت اليه لمعرفة حقيقة أمره اللافت، وبعد حوار قصير ظنّ من خلال لكنتي فيه أني من أصول إسبانية، أفصح لي عن أصوله اليهودية وأنه- على حد قوله- يستمتع بترك العرب يبحّون أصواتهم صراخاً وهو يستفيد من أموالهم!

وهذا ما يقودني إلى تسجيل ملاحظة أن كثيراً من ضعفاء النفوس في الوطن العربي قد باعوا الكوفية والرموز الفلسطينية في الفترة الأخيرة بأسعار مبالغ فيها نسبياً بما يلفت النظر ويفتح باباً للتفكير!

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top