وجهة نظر: كيسنجر مات

نشر في 08-12-2023
آخر تحديث 07-12-2023 | 20:18
 صالح غزال العنزي

توفي وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر عن عمر قارب المئة، وهو من أسرة عرفت بالأعمار الطويلة، حيث توفي أبوه عن 94 عاماً وأمه عن 95 عاماً وأخاه عن 97 عاماً، ولو عاش كيسنجر كبقية العائلة مغموراً بلا دور لقلنا (ماشي)، لكن هذا الهنري (خرب الدنيا وجلس على تلها)، فقد كان حبيساً لأزماته الشخصية وعقده النفسية كيهودي مكروه في معظم دول أوروبا في بدايات القرن الماضي، وكأقلية مستهدفة من النظام النازي، وكمهاجر هارب من جحيم أوروبا إلى غربة الولايات المتحدة تاركاً خلفه مال العائلة وتجارتها.

ورغم معاناته من عقد النقص والإهمال والبدايات المتأخرة، وما واجهه في الولايات المتحدة من ضرورة التأقلم بين السمات الثقافية للحياة المجتمعية الألمانية ورتابة الانتقالات إلى الأمام، وهلامية الثقافة المجتمعية الأميركية وفوضى الأبواب الحياتية المفتوحة، فإن كيسنجر الذكي جداً لم يتوقف عن الانطلاق المستمر دون أن تفرمله صراعاته النفسية وثنائيات الجذب الداخلي المتناقضة التي بقي يعانيها حتى موته والتي كانت تظهر دائماً في لقاءاته وكتاباته.

كانت أولى المشكلات الكبرى التي وجد نفسه مطالباً بالخروج منها سريعاً المستنقع الفيتنامي الذي كانت الولايات المتحدة واقعة فيه، وكان الخروج منها مهزوماً بأسرع وقت أفضل طريقة للإفلات من مشكلة قد تأخذ الولايات المتحدة معها إلى أقسى النتائج في هزائم الحروب إن تأخرت، فكان كيسنجر عراب الخروج من فيتنام بالطريقة التي تمت.

وقد بدأت نظريات كيسنجر في السياسة والعلاقات الدولية تتبلور تدريجياً منذ الفترة التي تبوأ بها منصب مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية، حيث أصبح تأثير نظرياته وهيمنتها يعم معظم أقاليم العالم المهمة، فقد كان الدرس الفيتنامي كافياً لتبلور نظريات السياسة الأميركية الجديدة مثل الحروب بالوكالة وإدارة الأزمات والفوضى الخلاقة التي أخذها عن جون فوستر دالاس وطوّرها بما يتناسب مع الدور الأميركي العالمي بعد حرب فيتنام.

فعلى يدي كيسنجر صعدت العصابات في أميركا اللاتينية إلى الواجهة لمحاربة الأنظمة الاشتراكية التي كانت تحكم تلك الدول، فأصبحت تجارة المخدرات من خلال وكالة الاستخبارات الأميركية خاضعة لمنظمات كبرى، ومن خلال الـ«سي آي أيه» انتشر الدولار المزور، ومن خلالها أيضاً صعد أرباب الحروب في القارة الإفريقية والصراعات العرقية والمذهبية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كان كيسنجر شيطاناً بصورة إنسان، فما وقع حول العالم من حروب وأزمات وجرائم حرب بتأثير منه أو بتأثر بنظرياته وآرائه لا تعد ولا تحصى، وقد قرأت (لسنوات) عن برنارد لويس وريتشارد هاس فلم أجد للأول ما يميزه كمنظّر بعيداً عن فكر كيسنجر، ولم أجد للثاني ما يمكن أن يخرجه من دائرة المنفذ لنظريات كيسنجر.

كان كيسنجر ملهماً لكبار الماسونيين بنظرياته العابرة للقارات وأفكاره الموحدة للمجتمعات، وقادراً على مزج أفكاره ونظرياته التي تبلورت تباعاً بالحقارة والأنانية والدونية التي أطّرت مراحل حياته ونتجت عن تجاربه الشخصية وعقده الذاتية وعقيدته وتنشئته.

بموت هنري كيسنجر تخلصت البشرية من عقلية شيطانية نادرة، فقد ترك نظريات وأفكاراً ستبقى ملهمة للساسة الأميركيين ولأبالسة الماسونية لسنوات طويلة قادمة.

back to top