مديوكرز

نشر في 21-11-2023
آخر تحديث 20-11-2023 | 20:00
 حسن العيسى

عام 61 بعد أن قبضت إسرائيل على إيخمان، أحد أهم المسؤولين النازيين عن محرقة يهود أوروبا (الهولوكوست)، في عملية قرصنة بالأرجنتين، وقدَّمته للمحاكمة، كُلفت الفيلسوفة اليهودية هنا أرندت، الناجية من المحرقة، كتابة تقرير عن محاكمة هذا الضابط النازي، فجاء تقريرها بعد سنة من المحاكمة في صورة كتاب بعنوان «تفاهة الشر».

خيَّبت أرندت آمال الدولة الصهيونية بالدعاية الإعلامية الثقافية، ووصفها النظام الصهيوني بأنها يهودية تكره نفسها. أرندت كتبت بحُرية المفكر الفيلسوف، أن المحاكمة كانت شكلية استعراضية، فالمتهم إيخمان لم يكن منحرفاً نفسياً، ولم يكن شيطانياً، هو شخص يخلو من الخيال، هو إنسان عادي بيروقراطي ينفذ الأوامر المفروضة عليه لا أكثر.

عند أرندت يعتمد النظام الشمولي الاستبدادي أساساً على أشخاص يطيعون وينفذون دون تفكير، فهم «مديوكرز»، أي بشر عاديون محدودو القدرات الفكرية، فمكنة التفكير الحُر عند الأفراد قد تم تدميرها تماماً، فلا شيء غير طاعة النظام.

مثل إيخمان، نجد شخصية «مارسيلو» في رواية «المطيع» للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا. مارسيلو يتماهى مع السُّلطة الحاكمة، ويستمد منها قوته، ويستكمل بها شخصيته، فبطل الرواية عاش حياته تافهاً بانحرافات مرعبة أثناء طفولته، وعوض عن ذلك الشذوذ والانحراف حين كبر، بأنه أضحى عميلاً استخبارياً لنظام موسوليني بسُلطة قتل أعداء النظام دون نقاش.

إيخمان الحقيقي ومارسيلو الخيالي لهما ملايين النسخ المماثلة في الأنظمة التسلطية، وهما قوام تلك الأنظمة، وأساس ديمومتها في الحُكم، وعالمنا العربي، بأنظمته الأبوية الاستبدادية، يقدم أفضل الأمثلة، ففي ضباط الأمن في أجهزة الاستخبارات والجهاز العسكري الخادم تتحقق تلك الصور لشخصيات الاستبداد والقهر، بشر يطيعون وينساقون خلف النظام، ولا يعرفون قول كلمة «لا» في وجه سلطان جائر، هم دائماً أسياد النظام وعبيده في الوقت ذاته، مفارقة جدلية.

back to top