لم يقل غير الواقع والمتوقع

نشر في 05-11-2023
آخر تحديث 04-11-2023 | 19:47
 د. بلال عقل الصنديد

لقد كان كافياً لتوقع ما سيقوله أمين عام حزب الله متابعة سياق الأحداث الأمنية على الحدود اللبنانية منذ انطلاقة «طوفان الأقصى» إلى قبيل إطلالته الأخيرة التي يبدو أن العالم- بما فيه الكيان الصهيوني- كان يترقبها لغاية في نفس يعقوب!

كما كان وافياً أن يتمعّن المرء بالمواقف الرسمية الإيرانية، وأن يستمع لتصريحات نواب حزب الله، وأن يشاهد المقابلات التلفزيونية للمحللين والصحافيين والسياسيين الذين يدورون في فلك الحزب، ليكوّن صورة كاملة عن موقف «محور المقاومة والممانعة» مما يدور في غزّة والجنوب اللبناني والإقليم بشكل عام.

لم يقل السيد نصرالله سوى ما فعله، ولم يقل غير المتوقع، وذلك لعدة أسباب استراتيجية وتكتيكية، سياسية وأمنية، إقليمية ومحلية.

بداية، كانت الإطلالة ضرورية وواجبة لإنهاء حالة «الغموض البناء» التي أراد من خلالها أمين عام حزب الله إرباك الكيان الصهيوني، والتي بعدما أدت أغراضها لم تعد منتجة بعد مرور ما يقارب الشهر على اشتعال الأحداث، مما خشي معه أن ترتد سلباً على صورة زعيم «المقاومة الإسلامية في لبنان».

وعلى الرغم من أهمية الإطلالة وانتظار الأعداء لها قبل الأصدقاء، أراد منها نصر الله ألا تزيل الغموض، حيث وبصريح العبارات التي استخدمها جمع في جملة واحدة بين نقيضين هما «الشفافية والغموض»، معلناً أن حزبه مستعد لكل الاحتمالات التي تبدأ باستمرار حالة تبادل المناوشات المحدودة وفق ما سمي «قواعد اللعبة»، وانتهاء بخوض غمار حرب واسعة يهددّ بها الكيان الغاصب في كل مناسبة وحين، مروراً بقاعدة «العسكري مقابل العسكري، والمدني مقابل المدني».

لقد كرر أمين عام حزب الله ما دأب أن يركّز عليه لجهة ما أسماه «استقلال القرار لحركات المقاومة العربية والإسلامية عن التوجيه الإيراني» دون أن ينكر مساعدة الجمهورية الإسلامية وتبنيها لهذا الخط وأحزابه وميليشياته المقاتلة، وفي ذلك محاولة تحقيق أكثر من هدف من أبرزها: قوله- عن حق- إن القرار له في كل ما يتعلق بالشأن اللبناني، وربما بالشأن العسكري التكتيكي على صعيد الإقليم، وذلك لا يعني تنكره للقرار الإيراني بل يعني الانصهار التام والتطابق المطلق بين أي موقف يأخذه والسياسات الإيرانية المتبعة منذ عقود، دون الحاجة لمراجعة طهران في كل صغيرة وكبيرة.

الهدف الثاني الذي أراد نصر الله التصويب عليه، هو محاولة إبعاد حركة حماس «السنية» عن الارتباط العضوي بالسياسات الإيرانية في الإقليم، وذلك دون أن ينفي الدعم المعنوي والمادي الذي تلقته الحركة من الجمهورية الإسلامية ومن الحزب نفسه، وهذا أيضاً ما قد يتضمن ما بين السطور تعليقاً– ويبدو عتباً- على ما صرّح به قادة «حماس» بشأن عدم إعلام «محور المقاومة» بتوقيت العملية العسكرية وتفاصيلها، وبخاصة أن «طوفان الأقصى» أفقد حزب الله سبق المبادرة بهجوم برّي على الأراضي المحتلة من قبل الفصائل المقاومة لأول مرة في تاريخ الحروب العربية-الإسرائيلية، وفق ما كان يخطط له الحزب ويهدد به منذ فترة.

أما الهدف الثالث الذي أراد تأكيده أمين عام حزب الله في خطابه هو أن النصر المعنوي الذي حققته «حماس» منذ فجر 7 أكتوبر 2023، ومهما كانت نتائجه قاسية ودامية على أهالي قطاع غزة وعلى جغرافيته وبنيته التحتية، سيكون على مدى السنوات- وربما العقود القادمة- موضوع تركيز إعلامي وسياسي من قبل «محور المقاومة» حول صحة الخيار المتخذ من قبلهم مقابل فشل خيار المهادنة والتطبيع والسلام غير المنتج.

مخطئ من كان يتوقع إعلان أمين عام حزب الله ما يوحي بدخول المنطقة مرحلة الحرب الشاملة، وغير مدرك حجم الخبرات السياسية والعسكرية المتراكمة لدى الحزب وقادته من كان يظن أن الخطاب سيأتي بمفاجآت ستغيّر قواعد اللعبة على أرض الواقع.

فقد أكد أمين حزب الله في خطابه، الواقع الذي شهدناه من أن الجبهة اللبنانية هي جبهة مساندة لا جبهة هجوم إلا إذا فرضت الظروف ذلك التحول الجهنمي، وهو ما يبعد احتمالاته تصريح البيت الأبيض الذي صدر بعد دقائق من انتهاء الخطاب الذي كان منتظراً، وفيه أعربت واشنطن حرفياً أن (الولايات المتحدة لا تريد أن ترى هذا الصراع يمتد إلى لبنان) وبالطبع الى المنطقة، كما يقلل من احتمالاته تصريح الكرملين أن «التسريبات عن دعم قوات فاغنر لحزب الله غير مبنية على أي أساس».

الحرب الشاملة ليست أولوية أميركية حتماً، وليست هدفاً للكيان الغاصب طبعاً، وليست من مصلحة إيران ولا لبنان ولا الإقليم بشكل عام، وهي رغم تمنّيها من قبل أطراف النزاع لتكون حاسمة بإعلان انتصار طرف على طرف، فإن الجميع يمارس سياسية ضبط النفس لإبعاد كأسها المرّ عنه، لكثير من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وفق الترتيب المستخدم عمداً.

يدرك العدو الإسرائيلي أنه غير قادر من الناحية العملية على تحمل الشلل في اقتصاده لفترة طويلة، كما يقاسم أعداءه الخشية والقناعة بأن أول استهدافات العمليات العسكرية ستكون منصات التنقيب عن الغاز في كلا الجانبين، ناهيك عن استهداف المصانع الكبرى والموانئ والمطارات والبنية التحتية الرئيسة.

ومن الناحية السياسية، ليس بمقدور أي من الطرفين، وبخاصة قادة العدو، تحمّل التبعات القاتلة داخلياً، في حال نجح أي طرف في تحقيق أو ترويج انتصار معنوي أو عملي، الأمر الذي يضاف الى عدم سماح المنطق العسكري بدخول أي جيش في حربين مفتوحتين في الأوان نفسه وعلى جبهتين متباعدتين جغرافياً ومتقاربتين في التنسيق والتخطيط.

في خلاصة القول، أكد السيد نصرالله في خطابه ما هو معروف عن تماسك وتنامي المحور الممتد من طهران الى بيروت مروراً ببغداد وصنعاء التي حيّا فصائلها المشاركة في جبهة الإسناد مع إغفال لافت لأي ذكر للسلطات السورية، الأمر الذي يؤكد ما يبدو واضحاً من سياسة الولايات المتحدة الأميركية التي تنحو باتجاه «الصمت البنّاء» عن القوة المتراكمة لهذا المحور لتعزيز واستمرار المخاوف «السنية» منه، دون أن تسمح لأي طرف من الأطراف أن تبلغ به القوة لتهديد الكيان الغاصب بوجوده!

وهذا ما يجعل الدرب المرسوم لرمي «إسرائيل في البحر» درباً شاقاً وطويلاً، وهو بتأكيد الواقع والقول بقيادة إيرانية مما يفتح للجمهورية الإسلامية وحلفائها باب الاستثمار السياسي على الصعيدين الإقليمي والوطني، وهذا ما سيرتد لاحقاً على لبنان بانتقال الشعار من الرغبة برئيس جمهورية «لا يطعن المقاومة في ظهرها» الى واجب أن يكون «الرئيس من صلب محور المقاومة».

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top