ما بعد «الطوفان»

نشر في 22-10-2023
آخر تحديث 21-10-2023 | 19:47
 د. بلال عقل الصنديد

كتب الكثير، وقيل الأكثر عن «طوفان الأقصى» وهو في حقيقة الأمر طوفان «الأمل والألم» الذي جرفت فيه «حماس» ومن معها أسطورة «الجيش الذي لا يقهر»، في حين يشكّل معجزة عسكرية قهر من خلالها ما لا يتجاوز 1500 مقاتل فلسطيني 7000 جندي محتل كانوا يتحصّنون في ثكناتهم العسكرية ونقاطهم الأمنية بهدف حماية المستوطنين في «غلاف غزة» الذي يفوق القطاع مساحة بكثير، فـ«كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ»، وكم أثبت التاريخ أن الغلبة للحق وليس للباطل، وإن طال الزمن، وإن كان الحق أضعف والباطل أعتى!

العدوان مهما طال سينتهي، والضحايا وإن كثروا سيكونون شعلة أخرى من شعلات الغضب الفلسطيني والأمل العربي بزوال قريب ومهين للكيان الإسرائيلي، فالحديث عن «الطوفان» بذاته سيتكفل به المستقبل لأن أصحابه دخلوا التاريخ، والأجدى بنا أن نفكّر بما بعده.

قيل تثبيطاً إن «حماس دخلت التاريخ وخسرت الجغرافيا» في إشارة الى عزم العدو على تدمير قطاع غزة، جزئياً أو كلياً، وإجبار أهله على الرحيل بفعل جريمة الإبادة الجماعية وهرباً من الإجرام المتمادي الذي يحاول من خلاله جيش الاحتلال إنقاذ ما تبقى من ماء مجده الزائف، والحقيقة أنه لا التاريخ ولا الجغرافيا سيبقيان على حالهما ما بعد الطوفان.

الشعب الفلسطيني المقاوم لن يهاجر مرتين، وهو يفضّل الموت وقوفاً كالشجر في أرضه على أن يصبح-مرة أخرى- حطباً لنيران الشتات وما يرتبط به من مآس ليس أقلها فقدان البيت والمأوى وخسارة الأرض والذكريات والحرمان من أبسط مقومات الكرامة الإنسانية وحقوق التعليم والعمل والاستشفاء... إلخ.

نعم، التاريخ سيتغيّر لأن ما قبل الطوفان ليس كما بعده، وجغرافيا القطاع التي بدأت بالفعل معالمها بالتبدّل، أقصى ما ستنتجه من تداعيات هو مزيد من التضييق على أبناء الشعب الفلسطيني المقاوم، دون أن تستطيع محو إرادة البقاء لديه ولا إطفاء شعلة العزم على استعادة كامل أراضيه التاريخية المحتلة.

ما بعد الطوفان، هي المعاناة بلا شك، لكنها الكرامة أيضاً بكل ما تعنيه ويترافق معها من مشاعر فخر واعتزاز جيّاشة، وإصرار متماد ومتنام على تحقيق الحلم الأوقع والنصر الأكبر.

ما بعد الطوفان هو تأكيد للمؤكد من انقسام العالم بين مجتمع غربي لا يتوانى في أي مناسبة عن تأييد ومشاركة الاحتلال الإسرائيلي- ظالماً كان أم ظالماً- ومجتمع شرقي لم يتخلّ لحظة، رغم ضعفه وهوانه، عن قضيته الأم، عن قبة الصخرة وكنيسة القيامة، عن بيت المقدس وبيت لحم.

ما بعد الطوفان هو ارتداد الكيان الغاصب الى خيبته داخلياً لمعالجة ما يمكن معالجته من أسباب فشله، وهو استقواء المحور الذي يلبس رداء المقاومة ويتكلم بلغتها، حقيقة أو تسييساً، على حساب محور اختار المهادنة والمصالحة تحت شعار الواقعية والحكمة.

ما بعد الطوفان، هو تراجع حتمي لحركة «فتح» وسلطة «رام الله» في وجدان الشعب الفلسطيني والعربي لصالح تصاعد شعبية الجماعات والتنظيمات الأخرى التي تؤمن بالجهاد حتى النصر أو الشهادة وتحمل الشعارات الدينية لواء.

ما بعد الطوفان هو تأرجح المنطقة ومعها العالم بين خشية التلموديين المتشددين من تحقق «لعنة العقد الثامن» وحلول «الزوال الثالث» للكيان الذي يجمع الإسرائيليين، وخشية العرب من أن يستشرس الغرب بالكشف عن أنيابه مجدداً ويلتف- جهاراً نهاراً- عسكرياً واقتصادياً واعلامياً مع اسرائيل ضد العرب في خطة طويلة الأمد وخطوات واضحة لا تحتاج لتأويل ولا تحمل أي تفسير، وذلك لتثبيت أواصر الكيان الغاصب بضغط من لوبي المال والإعلام الصهيونيين، وتحت تأثير الخوف من عودة اليهود الى أوروبا لما يشكلونه من خطر عانته الشعوب الأوروبية قرونا قبل تحقيق وعد «بلفور».

ما بعد الطوفان هو «شرق أوسط جديد»، ليس كما أراده أو يريده «نتنياهو» الذي يماطل في أمد الحرب تأخيراً للحظة احتراقه السياسي ما بعدها، بل هو شرق أوسطي لإيران وحلفائها قول أوضح فيه مما كان عليه عندما كانت تتأرجح مواقفها زخماً ومهادنة على وقع مفاوضاتها مع «الشيطان الأكبر» ومصالحها مع دول «القارة العجوز». هو شرق أوسطي لجهود التطبيع الجديدة فيه- بأحسن الأحوال- مثل مصير التطبيع المصري-الإسرائيلي: اتفاق مكرّس بالنصوص ومرفوض بالنفوس.

أمواج الطوفان ما زالت مرتفعة ومتأرجحة بين القمة والقاع، والعالم يعيش معها تكهنات حول توسع رقعة الاقتتال وتحولها إلى حرب إقليمية، وربما عالمية، في حال تحقق التدخل المباشر من قبل روسيا والصين بمواجهة الانخراط الأميركي العسكري لدعم الكيان الإسرائيلي في معركته الحاسمة.

الحرب الكبرى، مفتاحها الرئيسي بيد «نتنياهو» المتطرف والمحشور في زاوية الهزيمة السياسية والعسكرية المقترنين بالقلق الوجودي، ونسخته الأخرى بيد إيران وحلفائها في لبنان والعراق وسورية واليمن المستندين إلى ازدياد قواهم وتراكم خبراتهم القتالية!

صحيح أنه ليس من مصلحة أي من الأطراف ولا من دول وشعوب المنطقة اندلاع حرب إقليمية قد لا تبقي ولا تذر، لكن الصحيح أيضاً أن الطموحات الكبرى والمهانات العظمى قد تضاعف الرغبة في البحث عن مخارج وآفاق أرحب، وهذا ما قد لا تحمد عقباه إلا إذا أدت الحرب- رغم مآسيها وويلاتها- الى نصر مجيد وتحرير أكيد.

***

ما بعد الطوفان أسئلة لا تعرف إجابات واضحة، اليقين الوحيد فيها هو دماء الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين الذين تستمر آلة القتل الإسرائيلية بالتنكيل فيهم تحت أسقف منازلهم وداخل المستشفيات وأثناء انتقالهم من مكان مهدد لمكان يظنونه أكثر أماناً، فيقتلون فيه عدواناً وإمعاناً!

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top