نعم أخاف الكوليرا لكني أخشى «الخوف» أكثر

نشر في 14-11-2022
آخر تحديث 13-11-2022 | 19:30
 خولة مطر كلما غصتَ في زحمة الشوارع والجسور والأبراج أخذك الحنين إلى ذاك الوقت غير البعيد عندما كان البحر جار الطريق وجار المنزل والجار السابع للمكتب، وهو أيضا لا يبعد سوى مسافة بسيطة ليتحول إلى بحر ممتد في أفق غير منتهٍ.

تسلي النفس أن البحر اختفى أو تلاشى أو «خصص» ولكن يبقى هناك مد طويل من الحب والجمال على هذه البقعة الصغيرة جداً من الأرض، تمني النفس أحيانا أو ربما تطمئنها أو تهدئ من ذاك الفزع على تضاؤل مساحات الجمال بكل أنماطه وعلى التعلق أو الإعجاب المفرط بذاك النموذج المصطنع بل ربما المشوه، والذي تحول مع الوقت وبفعل سحر الدعاية «الغوبليه» المتطورة إلى مكان يلهث البشر للحج إليه طوال العام، كلهم أصبحوا ذاك النادي الذي يسمى «بلد»! ذاك الذي استطاع أن يجمع كل البشاعات في التعامل البشري لا في البناء والعمار فقط، ومع ذلك حافظ على لقب «الأكبر» «الأعلى» «الأطول» الأعمق و... و... وكأنه سباق لجنس لا بلد فيه بشر وبعض من تاريخ.

في ابتعاد البحر عن الجزيرة مؤشر لابتعاد كل ما كانت عليه، فتدريجياً تتحول هي إلى غابات من الأبراج والأحياء غير المخططة بشكل علمي والطرقات السريعة وطبعاً كثير من المجمعات التجارية حتى أصبحت مكاناً للقاء والرياضة والتسلية والبحث عن آخرين، وأيضا أصبحت مجالاً للتفاخر فيما يبرز السؤال: ما سبب تفاخر بعض أو كل دولنا بالمراكز التجارية، وما الإبداع أو الاختراع فيها؟ وما هي سوى مراكز أخرى لتعزيز مزيد من الاستهلاك وقليل من العقل في وقت أصبح السائد هو ألا تتكلم إلا عن المسموح به أو لنقل المقبول من العقل الجمعي للحكم وبعض المجتمع الذي أصبح أحيانا أسوأ وأكثر رقابة ودفاعا ونفاقا من الحكم نفسه!

سكان هذه الجزيرة المدافعون عنها هم الأكثر بحثا عن فرصة للهروب منها والسفر إلى أي مكان كان، وكأنها تخنقهم أيضا كما هم والحاكمون بالأمر يخنقون النفس والكلمة، ويسجنون الفكرة في زنازنين أكثر عتمة من سجن القلعة سابقاً، ولا لوم عليهم فقد يكونون أيضا ضحية لكل ذاك الضخ اليومي من الإعلام المغلوط حتى لا نقول الكاذب والمنافق والمسير لمصلحة شريحة واحدة فقط ضد الوطن، هم جميعا ضده ولم يبق له، أي الوطن، سوى فقرائه وليسوا جميعهم أيضا، فكثيرون منهم هم أكثر ضحايا الضخ المستمر للمعلومات الناقصة والمغلوطة التي تبعث على التفرقة وتقسيم المقسم وتفتيته، وهي التهم نفسها التي يوجهونها هم للمعارضين الذين حوصروا حتى في بيوتهم الضيقة والمساحات المحدودة المتاحة لهم عبر وسائل التواصل، فللتغريدة والهمسة والرسالة القصيرة ثمنها الباهظ جداً الذي قد يكلفك جواز سفرك أو حتى جنسيتك.



إنها الأرض العربية التي تضيق بساكنيها من الأحرار المعروفين للمجتمع باسم «مجانين» أو «متعصبين» أو مضحوك عليهم أو «قومجية» «ناصريين»... إلخ. تكثر الألقاب والتسميات وتبقى النتيجة واحدة هي العزلة في أضيق مساحة حتى يصبح الصوت المختلف عن السائد «عورة»! فيطفح الزبد من البشر وينتشرون على الشواطئ وفي الأزقة والشوارع والحارات وطبعا في «الكمبوندات» والفلل الفخمة وخاصة منها التي تملك أن تكون في حضن البحر أو على مقربة منه بعد أن تم تخصيصه هو كما خصص التعليم والطب وحتى الحب والعشق تحولت جميعا إلى مشاريع قابلة للربح بما في ذلك المشروع الربحي الأكبر فإما أن يكون «مال يتزوج مالا» أو مال يرفع من لا مال له!

تبقى هناك بقع متفرقة من بعض البلدان العربية التي لا يزال الحديث فيها في الأماكن العامة متاحاً دون التلفت يمينا وشمالا والبحث عن جهاز هنا أو عين هناك، راح زمن المخبر المتخفي خلف الجريدة بمظهره المضحك وأصبح «الواتساب» وأخواته وسيلة للتنصت على أحاديث البشر حتى وهم متحلقون جول مائدة عشاء، يبحثون عن دفء هنا أو بسمة هناك، حتى هنا عليهم وعليهن أن يكونوا حذرين فكل ما يقال يسجل وكله بثمنه!

تبقى بيروت رغم الخراب والدمار والانفجار وسقوط الليرة ليصبح الدولار بأربعين ألف ليرة حسب التوقيت واليوم!! والتلوث والأمراض وأخيرا الكوليرا عندما يشح الماء أو يتلوث وتعتم المدينة بسبب عدم توافر الكهرباء، والقائمة في بيروت طويلة ولا يقصر الإعلام العربي وخصوصا المتلفز منه واللبناني أيضا بالاسترسال في ذلك، ربما لهدف ما أو ربما لجهل ما!! في حين لايزال البحر في بيروت ملكاً للجميع في عاصمة الجمال التي كتب لها أن تدفع، ككل المدافعين عن الحريات والحقوق، ثمنا باهظاً لذلك.

يتريض في الصباح الباكر كثير من اللبنانيين وآخرون يلعبون أو يصطادون السمك، والكل يتحدث بأعلى صوت معلناً موقفا سياسيا لا يتصور هو أنه قد يدخله سجوناً عربية كثيرة، في بيروت لا خوف إلا من التفجيرات والرصاص الطائش أو غير الطائش أما كثير من الحريات الأخرى فهي كالكتب متوافرة في كل زاوية وحول كل موائد العشاء، في المطاعم البسيطة منها وحتى الفاخرة.

يسألونك «ألا تخافين الكوليرا؟» وتبدو الإجابة غريبة «نعم أخاف الكوليرا ولكن الخوف من عقلية القطيع ومن أن الفكرة قد تكون طريقا للتهلكة والعزلة إن لم تكن السياسية فقد تكون المجتمعية، هذا يخيفني أكثر من الكوليرا بالتأكيد».

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

back to top