خالد سعود الزيد... ريادة وتوثيق

نشر في 12-10-2023
آخر تحديث 11-10-2023 | 18:24
No Image Caption

لكلِّ أمة رجال رصدة، ومؤرخون بالفِطرة، وأدباء بالطبيعة، يتحملون عبء كتابة التاريخ، وتوثيق أحداث الأمة، فيسجلون تاريخ الإنسانِ على الأرض ليفيد منها الإنسان، وتتطور البشرية عبر معرفة تاريخ الأسلاف، والتطلع للمستقبل.

الأديب والمؤرخ خالد سعود الزيد (1937–2001) واحد من أولئك الرجال الأدباء المؤرخين، فقد دوّن – موثقًا – شطرًا من تاريخ الكويت وحركتها الفكرية والثقافية، وترجم لأدباء الكويت، وعني بتاريخ البلاد عبر قراءاته التاريخية، ومشاهداته الميدانية، وكلّل جهده هذا باستخراج مادة الكويت من كتاب «دليل الخليج» بسفريه التاريخي والجغرافي، لمؤلفه البريطاني ج. ج. لوريمر(J. G. Lorimer).

شبّ الزيد على حبِّ القراءة والمطالعة منذ نعومة أظفاره، وولّد ذلك فيه باكرًا روح التحقيق والتنقيب والمعايشة لما يقرأ، فقرأ في صِباه الشِّعر الجاهلي، وهو في الصحراء ليحاكي حياة شعراء الجاهلية ويحياها، فيفهم صورهم الشعرية المستمدّة من البيئة الصحراوية.

وفي مارس من عام 1980م خرج الزيد إلى البرِّ هو وأسرته في عطلـة الربيـع – على عادة أهل الكويت – وخيّم فِي منطقة «الصِّبيّة»، وأخذ يجوب أرضها مستذكرًا ما قرأه عن هذه المنطقة تاريخيًّا وأدبيًّا، ومن خلال قراءته المكثّفة حول تاريخ الكويت ومنطقة الجزيرة العربية، استطاع الزيد أن يصل بثاقبِ بصيرتهِ وحديد بصره إلى أنه يقف على أرضٍ تاريخيةٍ كانت مأهولةً من آلاف السنين، ثم بدأت الشواهد التاريخية تتجلّى له واحدة تلو الأخرى عبر قراءاته التاريخية المكثّفة، حتّى عثر على «جرّة» كان يعبث بها أحد أطفال سكان المنطقة الأصليين، فاستأذنهم في أخذها، فوهبوها له وكانوا فيها من الزاهدين، ذلك بعد أن شاهد عددًا من الجِرار المكسورة التي يلهو بها الأطفال من حين إلى حين، ثم تهوي إلى الأرض مهشّمة دون أن يعي رجال تلك المنطقة وأطفالها أهمية هذه الجرار وقيمتها التاريخية.



إنه قرأ وحقّق، وخرج إلى الصحراء ليصل بفطرته البحثية، وفطنته الثقافية إلى أن «رأس الصبية» المتصل بـ «جون الكويت» كان مأهولاً بالسكان إلى عهد قريب، وربما كانت هناك مدن غطّتها الرمال، وأنّ هذه المنطقة عرفت تاريخيًّا باسم «جرهاء» وهي مقلوب ما يعرف اليوم باسم «جهراء» والقلب في أسماء الأماكن وارد في العربية.

الزيد أراد أن يعطي باستنتاجاته البحثية واكتشافه الأثري بعداً حضارياً للكويت يجعلها موصولة بتاريخ المنطقة جغرافياً

إنه أراد أن يعطي باستنتاجاته البحثية، واكتشافه الأثري، بعدًا حضاريًّا للكويت، يجعلها موصولةً بتاريخ المنطقة جغرافيًّا، ويصل بها إلى ما قبل العصر الإسلامي، كان يريد من المؤسسة الثقافية أن تصغي إليه، وتعيره اهتمامًا، وتأخذ الموضوع مأخذ الجد، فلم يعط الحق في الحديث، فآثر بدوره صمت العلماء على ثرثرة الجهلاء، ووضع نتائج بحثه عن (الصِّبيّة) في أدراج مكتبه، وطوى صفحة الموضوع، إلى أن جاءت البعثة الألمانية إلى الكويت في مطلع عام 1999م لتؤكد ما قاله الزيد من قبل، كما أعْلِن في نوفمبر من العام نفسه، وبشكلٍ رسمي عن مواقع أثرية في منطقة «الصِّبيّة»، وأن هناك بعثة بريطانية وفريق عملٍ كويتياً متخصصاً يعملان على التنقيب في المنطقة، وأنه قد تم اكتشاف مجموعة من القبور الرّكامية في منطقة «الصِّبيّة»، وفي موقع «الطبيج» – وهو من أقدم المواقع الموجودة في منطقة الخليج العربي – عثِر على مجموعة من المنازل والغرف التي تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد مع مجموعة من الفخاريات التي كان يصنعها الإنسان في تلك الفترة، وذلك ما دلّل عليه الزيد مستشهدا بأحد كبار مؤرخي اليونان يومئذ.

وبهذا أصبح خالد سعود الزيد رائداً لاكتشاف المنطقة الأثرية في الصِّبيّة منذ عام 1980.

***

في هذا الوقت كان الزيد قد تحصّل على نسخة من كتاب «دليل الخليج» لمؤلفه جون جوردن لوريمر (1870 – 1916) الذي ترجمته دولة قطر وطبعته في أربعة عشر مجلدًا، السفر التاريخي يقع في سبعة مجلدات، ومثله السفر الجغرافي، ويذكر الزيد أنه وهو يحمل الكتاب ليهوي به إلى الأرض، لمعت له فكرة استخراج مادة الكويت من هذا السفر الكبير، وأحسب أن عكوفه على استخراج مادة الكويت من «دليل الخليج» كان بدافع تعزيز اكتشافه للمدينة الأثرية في الصِّبيّة من جهة، ومن جهة أخرى ليثبت ضلوعه في تاريخ الكويت والمنطقة.

عمد الزيد إلى استخراج مادة الكويت من «دليل الخليج»، واتخذ منهجاً علميًّا في استخراج المادة وتنضيدها والتعليق عليها، وقد تحدث عن منهجه في مقدمتيه للسفرين: التاريخي والجغرافي. أراد الزيد أن يضع قدمه على طريق المؤرخين الذين يتمتعون بمعرفةٍ تاريخيةٍ، وطرائق علمية في تناول الموضوعات التاريخية وتحقيقها، فلم يكن الزيد حاطب ليلٍ، بل كان عالِماً حاذِقاً في ما يستخرج من مادة تاريخية عن الكويت، وكل ما يخصها منذ نشأتها حتى مطلع القرن العشرين، ولا أدل على هذا الجهد المبذول من تلك الهوامش التي لا تقل أهمية عن المتن بما تحمله من توضيحٍ، أو تصويبٍ أو شرحٍ أو تعليق.

أراد الزيد في هذا الكتاب أن يقول قولاً بليغًا، ويضع حجةً دامغةً على أنه أهْل لاكتشاف المدينة الأثرية في الصِّبيّة، بما يحمله من معرفة تاريخية، وقدرة علمية على التحقيق والتمحيص والشرح بمنهج علمي رصين.

***

وربما يتبادر تساؤل إلى الذهن مؤدّاه:

لماذا يتم إعادة نشر هذا الكتاب اليوم؟ أو ما الضرورة الملحّة لإعادة طباعته؟

إن أهمية هذا الكتاب تتمثل في ما يطرحه من أسئلة مهمة، وفيما يقدمه من روايات تاريخية كتبت بعين غربية للمنطقة، كما يبين الكيفية التي مارس بها البريطانيون سطوتهم وسلطتهم على المنطقة من عمان إلى عربستان في حقبة تاريخية مفصلية أعقبتها حربين عالميتين أدتا إلى تغيير خارطة المنطقة رأسًا على عقب، إذ بات تداول السلطة وتبادلها عبر الحدود الجغرافية الموضوعة والمرسومة من قِبل الغرب هي خارطة طريق المنطقة.

وبدأ استقلال الكيانات الموجودة وتحولها من إمارات وقبائل إلى دول ومجتمعات مدنية لها قوانينها ودساتيرها المنظمة، وهذا هو ما يسعى إليه الغرب من أجل شرعنة استغلال ثروات المنطقة، خصوصا بعد ظهور النفط، وتكالب المستعمِر الغربي، وتهافته على استغلال هذه الثروة الطبيعية والهيمنة عليها.

إن السبيل الوحيد إلى استشراف المستقبل هو قراءة التاريخ بعين باصرة، وإدراك حركية الواقع بوعي واسع، حتى تصبح النظرة للقادم قائمةً على أسس ونهج قويم سياسيا وتاريخيا.

ومن الجدير بالذكر أن المؤرخ خالد سعود الزيد لم يعتد ورود الأراضي المهاد، أو المطروقة من العباد، إنما كان يأنس أن يكون رائدًا للطريق غير مسبوق له، وهذا شأنه في كل ما ألف من كتب، لذا نجده في آخر المقدمة يشكر دولة قطر على ترجمة وطباعة كتاب «دليل الخليج»، ويرجو أن تتولى هي والدول الشقيقة الأخرى استخراج ما يخص كلاً منها من مادة هذا الدليل على المنوال الذي قام به في استخراج مادة دولة الكويت، وبالفعل فقد تم بعد ذلك استخراج بعض الكتب من هذا الدليل منها:

1 - تاريخ المملكة العربية السعودية في دليل الخليج، ج. ج. لوريمر، صنفه وعلق عليه د. سعيد بن عمر آل عمر، 1996.

2 - تاريخ البلاد السعودية في دليل الخليج، محمد بن سليمان الخضيري، 2001.

3 - معجم قبائل الخليج في مذكرات لوريمر دليل الخليج، سعود الخالدي، 2002.

4 - البحرين في دليل الخليج، إعداد: عباس المرشد، 2011.

5 - دولة الإمارات العربية المتحدة في دليل الخليج، 2014.

6 - سلطنة عمان في دليل الخليج، مراجعة وتدقيق: سيف بن عدي المسكري، 2015.

لذا باتت إعادة طباعة هذا الكتاب ضرورة ملحة في هذه الحقبة، لما يمثله من أهمية في قراءة تاريخ الكويت خاصةً، والمنطقة عامة، إضافة إلى كونه يكشف عن معلومات تاريخية وتفسيرات وتعليقات كانت في فترة من الفترات تعد سرية، وجدير بالذكر أن كتاب «دليل الخليج» لم يكن تداوله مصرحاً به حين طباعته، ولكن بعد مرور خمسين عاماً على صدوره أصبح ذلك مباحاً ومتاحاً للقارئ العام، لينهل منه دون حظر أو منع كيف شاء.

back to top