معاشات النواب الاستثنائية جريمة رشوة علنية بحكم الدستور... مطلوب التصدي لها

نشر في 18-09-2023
آخر تحديث 17-09-2023 | 18:16
 يوسف الشايجي

تابعت كما تابع الكثيرون غيري من المهتمين بالشأن العام إجابة وزير المالية الجديد فهد الجار الله المتضمنة رد المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، الموضح فيها بالتفاصيل والأرقام جميع الشرائح المستفيدة من المعاشات الاستثنائية التي تصرفها المؤسسة بموجب المادة (80) من قانونها، والتي تخول مجلس الوزراء استثناء من تراه مستحقاً لمعاش تقاعدي إضافة إلى معاشه القانوني، ويحسب لوزير المالية تزويد النائب السائل بهذه الإجابة التفصيلية، تعزيزاً لمبدأ الشفافية والوضوح في التعاون بين السلطتين الحكومة والمجلس.

ومنذ اللحظة الأولى لقراءتي تلك الإجابة بكل تلك التفاصيل، أدركت قيمتها وأهميتها، وما تضمنته من معلومات سيُبنى عليها الشيء الكثير، فهي تكشف وتقر رسمياً، عن طريق وزير المالية، بجريمة مادية وأخلاقية، حيث تعد شكلاً من أشكال جريمة الرشوة المكتملة الأركان، طرفاها الرئيسان الحكومات السابقة والحالية كطرف «راشي» ونواب مجلس الأمة السابقين والحاليين كطرف «مرتشي» فكلاهما في النار، كما يقول الحديث الشريف.

قد يختلف معي الكثيرون في تصنيف عملية صرف تلك المعاشات الاستثنائية بأنها أحد أشكال الرشوة، وهم محقون في ذلك، فأنا لم أعمم جريمة الرشوة على جميع متلقي تلك المساعدات، نعم قد يكون منهم من يستحقون تلك المعاشات فعلاً، لكن الصحيح أنه قد يشوب تلك العملية الكثير من أشكال الإهمال والتسيب في تحديد من هو المستحق الفعلي لتلك المعاشات من بعض من صرفت وما زالت تصرف لهم، كذلك صرف لبعضهم الآخر من باب المحسوبية والواسطة ليس إلا.

وتعد تلك المخالفات الجسيمة مصدراً كبيراً من مصادر هدر المال العام، والتي للأسف اعتدنا عليها وعلى غيرها من أوجه الهدر من جميع الحكومات السابقة حتى الحالية، إلا أن ما قصدته بجريمة الرشوة التي تخللت عملية صرف تلك المعاشات الاستثنائية هو تحديداً صرف معاشات استثنائية للنواب الحاليين ومن سبقوهم، وأثر ذلك على صحة ونزاهة العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية قياساً بشكل العلاقة القانونية المفترضة بينهما، التي حددها الدستور في الكثير من مواده، لكني سأكتفي بما جاء في المادة (120) من الدستور، لعلها توضح بصورة جلية أموراً كثيرة في هذا الجانب، فتنص على: «لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الأمة وتولي الوظائف العامة، وذلك فيما عدا الحالات التي يجوز فيها الجمع وفقاً للدستور، وفي هذه الحالات لا يجوز الجمع بين مكافأة العضوية ومرتبات الوظيفة».

فالنص واضح وصريح ويتحدث عن نفسه: لا يجوز للنائب طوال عضويته في المجلس أن يتسلم أية أموال من الحكومة أو من أي من الجهات التابعة لها تحت أي مسمى أو تبرير، لأنها من بدهيات «تعارض المصالح» للنائب مع دوره الرقابي على أداء الحكومة وجميع الأجهرة التابعة لها، حتى لو كان ذلك راتباً مستحقاً للنائب مقابل عمل، فما التصرف الواجب إذا كان هذا المال يمثل معاشاً لا يصرف للنائب إلا باستثناء من الحكومة، فهنا تصبح الجريمة جريمتين، وعدم الجواز يصل إلى التحريم.

وبمناسبة الجدل الدائر حول المعاشات الاستثنائية التي تصرف للنواب أستذكر موقفاً تم في المجلس التأسيسي من المناسب بل من المهم ذكره: عند نقاش المجلس في جلسته العامة موضوع صرف مكافآت لنواب المجلس، وفي بداية فتح الحوار حول ذلك اعترض النواب ممثلو التيار الوطني في المجلس التأسيسي على ذلك، مبررين موقفهم هذا بأنهم لا يرغبون في ذلك، ويجب على النائب ألا يتلقى أموالاً أو مكافأة نظير قيامه بدوره بتمثيل الأمة والدفاع عن مصالحها، كون ذلك يأتي من بدهيات قيامه بواجبه الوطني، وكانوا يطرحون ذلك وهم صادقون مع أنفسهم، ومن باب التعفف لا من باب المزايدة أو النفاق، ومن خلال الحوار تبين لهم في نهايته أنه في حال وافق المجلس على مقترحهم بعدم صرف مكافأة للنائب فإنهم وبموجبه سيقصرون الترشح للانتخابات القادمة على التاجر وميسور الحال فقط الذي ليس في حاجة لمكافأة المجلس وبإمكانه الاستغناء عنها، لأن لديه مورداً مالياً آخر يعيش منه، أما الموظف الذي يعتمد على راتبه فقط فلا يستطيع الترشح للانتخابات لأنه سيتوقف مصدر دخله الوحيد متى ما نجح وأصبح نائباً، فهل كان هذا غرضهم من مقترحهم هذا؟ بالتأكيد لم يكن هذا هدفهم من المقترح فتراجعوا عن موقفهم الرافض، وأقر المجلس التأسيسي مكافأة للنائب العضو في مجلس الأمة.

لاحظ التفاوت الكبير في نوعية نواب المجلس التأسيسي وموقفهم المبدئي والنبيل الرافض لصرف مكافأة المجلس لهم، وكيف تدنى هذا الموقف عند غالبية نواب المجلس الحالي ومن سبقوهم من نواب لم يكتفوا بالمكافأة بل طلبوا معاشاً استثنائياً من الحكومة إضافة لها. لذلك فإن المسألة لم تنته بعد، والواجب الوطني يفرض التصدي لجريمة (الرشوة) هذه بالقبام، بداية بالتقدم بسؤال ثان لوزير المالية للكشف عن أسماء النواب الـ36 في المجلس الحالي متلقي المعاش الاستثنائي والذين يشكلون نسبة 72% من إجمالي عدد النواب الـ50، لمعرفة الطرف الثاني والشريك في جريمة الرشوة.

وهذه الخطوة تقع على عاتق الـ14 نائباً الآخرين سواء فردياً أو جماعياً، فهم المخولون بذلك، ولا يفوتنا أن نتوجه بالتقدير والثناء لهم على موقفهم المشرف بعدم قبولهم صرف معاشات استثنائية لهم كالبقية، مراعاة لضمائرهم واحتراماً لصفتهم كنواب عن الأمة.

ولا يتوقع أن يرفض وزير المالية أو الحكومة الكشف عن أسماء الـ36 نائباً متلقياً المعاشات الاستثنائية لأنهم لا يرون في صرفها لهم أي مخالفة، وإن رفضوا فمعنى ذلك أنهم يقرون بمخالفاتهم تلك.

إضافة إلى ذلك يجب على النواب الـ14 المبادرة:

أولاً: أن يتم التعديل على المادة (80) من قانون التأمينات، بحيث يشار فيها بصراحة ووضوح، بأنها لا تشمل نواب مجلس الأمة.

ثانياً: أي مشاكل مالية تواجه النائب يمكن معالجتها بصورة فردية أو بصورة جماعية من خلال بند المكافآت المذكور في المادة (119) من الدستور.

back to top