المقري: التعايش السلمي في اليمن انتهى والصراع غير عقلاني

• خص برنامج الجوهر بحوار حصري حول روايته «بخور عدني» ومواضيع أخرى

نشر في 17-09-2023
آخر تحديث 16-09-2023 | 18:15

رأى الروائي اليمني علي المقري أن «الوطن قد يكون خائنا لمواطنيه، كونه عبارة عن فكرة ومفهوم أيديولوجي ومؤسسات قد لا تلبي تطلعاتهم ورغباتهم، ما يطرح السؤال حول إمكانية إيجاد بديل للوطن، غير أن الوطن والبديل عنه لا يتحققان في النهاية، فقد اعتدنا للأسف الخيانات المتبادلة»، مشيرا إلى «أننا ورثنا بعد الربيع العربي، وعقب مغادرة الحكام الدكتاتوريين، إرث الخراب، وهي محنة لا تقتصر على اليمن، بل نجدها في العراق وسورية وليبيا».

الكاتب والأديب المنحدر من مدينة تعز، المعروفة بالعاصمة الثقافية لليمن، كشف أن «المنفى حين يتحول إلى وطن يصبح منفى إضافيا، ونحن دائما في منفى، سواء في بلداننا أو خارجها، ونعيش في وهم يخفف وطأة هذا المنفى»، مبديا أسفه الشديد لـ«انتهاء التعايش السلمي في اليمن، فالصراع حاد، وغير عقلاني وغير إنساني».


غلاف الرواية غلاف الرواية

واسترجع الشاعر، بحسرة وحزن عميقين، ذكرياته وحنينه لوطنه الأم، بعد ثماني سنوات من الهجرة القسرية والإقامة في فرنسا، وشكلت الحلقة الحوارية المطولة، التي خص بها برنامج الجوهر للتدريب الإعلامي، فرصة للتطرق إلى رواية «بخور عدني» وعدة مواضيع أخرى، وأتت الحلقة عقب ورشة عمل مكثفة في فنون الحوار الإعلامي، دربت فيها الإعلامية رانيا برغوت مشاركين من عدة دول عربية (٤ متدربين من الكويت، ومتدربتان من اليمن، ومتدربة من العراق، ومتدرب من لبنان)، ضمن ورش العام الرابع لبرنامج الجوهر الذي تنفذه أكاديمية لوياك للفنون - «لابا».

في مستهل اللقاء، سأل المشارك محمد بهبهاني ضيف «الجوهر» عن المفارقة التي عاشها عند حصوله على وسام الفنون والآداب بدرجة فارس من فرنسا، وهو أرفع وسام في هذا المجال، في حين لم يحصل على جوائز في بلده، فأجاب الكاتب الكبير: «في بلداننا نتمنى ونحلم فقط أن نعيش بأمان وسلام، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير، كما أن أكبر جائزة نحققها كأدباء وكتاب عرب هو أن نكتب بحرية، وأن تتاح لنا الكتابة بحرية، وبالحديث عن التمرد على الدين والعادات والتقاليد في رواياتي، فلا أرى أي تمرد، إنما أمتحن إشكاليات جوهرية في حياتنا اليومية، عن مفاهيم الوطن وتحقيق الذات وغيرها من القضايا الإنسانية والوجودية».

وعن مدى مساهمة قضايا الجنس والدين في تحقيق انتشار أوسع للرواية، قال المقري: «الحديث عن أننا نكتب لأجل الانتشار والشهرة يعد تسطيحاً وطرحاً سريعاً، فنحن نتناول محنا إنسانية ونكتب بحذر وبمسافة واحدة من كل الأطراف، الهدف ليس أيديولوجيا، وقد حققت روايتي (اليهودي الحالي) انتشارًا واسعًا، رغم عدم وجود أي إشارة أو إيحاء عن الجسد، إنما علاقة حب تجمع بين شخصين من دينين مختلفين، في دلالة على أن الحب هو دين، وهو مرتكز لكل التحولات. في حين، مُنع عدد من رواياتي بالعالم العربي، علمًا أن الحل بالحوار وكتابة كتاب نقدي آخر، وليس بالمنع والمصادرة والرقابة، والتي لم تعد مجدية. غير أننا أصبحنا اليوم في مرحلة تحوّل متميزة في كثير من البلدان العربية، وأتمنى أن نتجاوز فكرة المنع والرقابة».

وأضاف: «الصراع التاريخي بين الإسلام واليهود حفّزني على كتابة هذه الرواية، وقد حصلت على أكثر من ثمانية عروض لتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي، وحاليا أطلع على سيناريو، وقد أشارك في إضافة تعديلات عليه. المشاريع قائمة وأتمنى تحقيق ذلك، لكنني متخوف من صعوبة تجسيد النص الكتابي بطريقة بصرية دقيقة».

بخور عدن

وفي رده على المشارك عبدالحميد إسماعيل، حول روايته «بخور عدني» وسبب تسميتها، أوضح المقري أن «البخور يُعد من أبرز مكونات المدينة ومن السمات المميزة في عدن، نصنعه بطريقة خاصة، وفي كل مرحلة تتبدل رائحته وشكله، كما أنها تشكل امتدادًا لفكرة رواية اليهودي الحالي، في امتحان فكرة الوطن والبديل عنه. فهناك وطنان، وطن واقعي نعيشه ووطن في الحلم. كانت عدن البديل عن الوطن كمؤسسة تحتضن التنوع والانفتاح، فالوطن كفكرة فيها إشكالية، وحين نقدم تعريفًا له يضيق الوطن بالكثير من المقيمين فيه، ويتحول إلى سطوة وقوانين وتناحرات».

وإذ كشف أنه لا يخطط لجزء ثانٍ للرواية، لفت إلى أن «عدن بحد ذاتها محفز دائم للكتابة، وإعادة قراءة التاريخ والواقع الحالي، رغم أنها باتت للأسف تضيق بالتنوع والتعدد»، وإذ أسف «كوننا اعتدنا الاستسلام ولم نعد نطمح لبطولات وهمية»، رأى أن «الكتابة تساهم في ترميم الذاكرة وإعادة ترتيبها وليس في فقدانها».

وتحدث الأديب القدير بشجن عن شوقه وحنينه لمدن اليمن بشوارعها ومقاهيها ومعالمها وتفاصيلها، قائلًا للمشاركة صابرين يوسفي: «الوطن عبارة عن ذكريات مهما كانت مؤلمة، وللأسف انتُزعتُ من صنعاء ومن حياتي وتفاصيلي اليومية، من الزاوية التي أكتب فيها ومن مكتبتي الغنية بالكتب والأوراق الخاصة وبذكريات وتاريخ طويل، فهي مكتبة لا تُعوّض».

وأضاف: «لم نكن نتوقع هذه الحرب المهولة وهذا الاجتياح الهائل، لكنني أتمنى أن يعود الجميع لترميم ذاكرتهم، ذاكرة البلد، وأن تعود المدن اليمنية العظيمة بإرثها التاريخي والثقافي الكبير، لترميم ذاكرتها وجراحاتها والمضي نحو المستقبل».

الثقافة الفرنسية

وعن ذكرياته في باريس، أشار إلى أنها «سنوات غنية، اكتشفت معها معنى المدينة والحياة والتفاصيل، لكن اليمنيين المهاجرين يبقون على صلة باليمن بشكل يومي، فهي لا تفارقنا ولا نتخلى عنها في أحداثها اليومية ومشاكلها، وقد اخترتُ باريس لاختلافها عن غيرها من المدن، هي عبارة عن متحف كبير، يتجدد باستمرار، كما تتميز بجمالها وبصخب حياتها. نشعر فيها بالضياع وهذه صفة هائلة للمدينة، إذ أحيانًا نأمل أن نضيع في مدن لا يسألنا أحد عن هويتنا، علمًا أنني لا أخاف التشتت، كوني أعرف مصيري كغيري من اليمنيين».

وتابع: «كما أنني أكتنز مخزونًا ثقافيًّا كقارئ للثقافة الفرنسية، وهذا ما شجعني على البقاء بها. غير أن باريس لم تمنحني محفزات الكتابة كما هي حال اليمن، والدليل أنني أنتجت فقط كتابًا واحدًا فيها. الجدير ذكره أن صنعاء لا تُعوّض، فالكل هناك يعرفك ويصافحك ويسأل عنك. لقد كانت لكل اليمنيين قبل أن تصبح محصورة بالصوت المذهبي الأحادي، كما أنها مدينة للشكوى، لن نجدها في بلدان أخرى، فنحن كبلدان عربية ننتج الشكوى من انقطاع الكهرباء والمياه والرواتب وغيرها، من دون أن نفكر في الحلول».

تنوع ثقافي

واعتبر المقري، في إجابته على سؤال المشاركة رشا الربيعي، أن «البخور قاسم مشترك للجميع، لا يجمع العدنيين فقط، إنما يلجأ إليه الكثيرون وهو ينشر فكر عدن وتنوعها الثقافي. تلك المدينة التي كانت قبلة الثورة والثوار في حقبة السبعينيات والثمانينيات، قبل أن تشهد تحولات جذرية، فنحن نفتقد اليوم في اليمن التعدد بكل مستوياته، كما نفتقده في العراق الذي كان يضم مدرسة للراهبات درست فيها معظم الطالبات المسلمات، وكذلك الحي اليهودي في عدن الذي لم يكن يشبه الحي اليهودي في كل بلدان العالم، إذ لم يكن ذلك الحي مغلقاً، بل تسكنه طوائف ومذاهب عديدة، لذلك ذكرت في روايتي أسماء الشوارع وأماكن العبادة، كدليل على حياة المدينة التي نفتقدها اليوم، كانت هوية عدن بعالميتها وتعددها وتنوعها وعدم انغلاقها على دين واحد أو مفهوم واحد أو ثقافة أو أيديولوجيا محددة».

القراءة الأدبية

ورأى الشاعر اليمني أن «القراءة الأدبية تختلف عن القراءة التحليلية السياسية، فالروائي لا يقدم إجابات ولا يحمل أفكاراً أيديولوجية أو موجهة ولا يمثل حزباً، غير أن اليهود جزء أساسي من تاريخ اليمن، وليسوا فقط مجرد آخر علينا التعايش معه، حتى أن اليهودية كانت الديانة الرسمية لليمن في حقبة من الزمن. لذلك بحثتُ عن الأنا المتشظية أو المتعددة، بعيداً عن المفاهيم والقراءات الأيديولوجية، وعن الثنائيات الدينية وغير الدينية».

وفي محور «ضياع الهوية»، سألت المشاركة حوراء الإبراهيم عن الهوية الحقيقية التي تطرحها رواية «بخور عدني»، في حين أن «أغلب الشعوب العربية تعاني من ضياع الهوية بسبب الأوضاع وعدم الاستقرار»، فأجاب الكاتب: «تتمحور الرواية حول هوية الإنسان والبحث عنه أينما كان، بغض النظر عن جنسيته وديانته وثقافته. فالإنسانية تجمعنا ونشكل معًا لوحة جمالية غنية بالألوان والتفاصيل، إذا هوية الإنسان هي هوية التنوع وعدم القدرة على العيش من دون الآخر، وإلا نتحوّل لكائنات مغلقة، فالإنسان ليس واحداً في سياق هوية محددة».

ورأى الروائي الكويتي هيثم بودي – أحد المشاركين في الورشة التدريبية - في الرواية نوعاً من الإبحار في «عدن الموزاييك من الأديان والأعراق والتاريخ»، فسأل عن تبسيط الرواية للحلم العربي وحصره برؤية الملوك والساسة، وأوضح المقري أنه حاول «تجسيد فكرة الحلم داخل الحلم، أي أننا نحلم بأن نحلم، كما أن الرواية تمثل الوجع العربي والاستسلام للقهر والموت». وعن تسبب الثورات العربية في إخفاق أحلام العرب الذين يموتون في أوطانهم أو يهاجرونها، قال: «السبب يعود لفقدانهم فكرة التعدد وتقبل الآخر، على افتراض أنه آخر، علماً أن الآخر بكل تجلياته هو نحن هو الإنسان».

وتعقيباً على سؤال المشاركة غدير طيرة، استذكر الكاتب «كيف كانت عدن بوابة الهجرة لليمنيين، لذلك كانوا يصفون المهاجر بالعدني. كانت عدن مدينة مفتوحة، تضم مهاجرين من مختلف البلدان، اعتبروا أنفسهم جزءاً من المدينة، فكانت بمفهوم البديل عن الوطن، قبل أن تسيطر عليها جهة محددة لا تمثل كل العدنيين». وعن قدرة الأدب على تسهيل الحوار في اليمن، أفاد: «للأسف لا دور للأدب خلال هذه الفترة، فالناس لا تقرأ بل تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي وما تمثله من ثقافة سريعة، مشوّشة للعقل».

وفي إجابته على المشارك عبدالمحسن نوح، سرد مراحل هجرته القسرية من اليمن باتجاه جيبوتي، بواسطة القارب، وما رافقته من مخاطر الغرق، إثر تلقيه دعوة من المكتبة الوطنية البريطانية لتوقيع إحدى رواياته المترجمة للغة الإنجليزية، ذكر المقري: «لم أستطع الحصول على تأشيرة لزيارة لندن، فبقيت ثلاثة أشهر في جيبوتي، ثم سافرت إلى القاهرة وقررت العيش بها، لاحقاً تلقيتُ دعوة لاستلام جائزة أدبية في باريس بعد ترجمة روايتين من رواياتي للغة الفرنسية، فقصدت العاصمة الفرنسية واقترحوا عليّ البقاء فيها».

المخاطر الحقيقية

واعتبر ابن مدينة تعز أن المخاطر الحقيقية اختبرها أثناء الحرب، حيث كان يسمع القذائف وكان شبه مشرد في كثير من المدن والقرى اليمنية، مضيفا: «الحرب قاسية جدًّا، أشعلها الخارجون عن الإجماع الوطني اليمني، الذين كانوا يأملون الخروج من الأزمة السياسية، فنفذوا على عجل انقلابهم في صنعاء»، وكشف أن اسمه كان مدرجاً على قوائم الاغتيالات التي وضعها الحوثيون، وكان الخائن رقم ألف، وفق وصفهم، «لكنني قبل ذلك واجهت حملات تكفير وحملات مناهضة لكتبي من قبل جهات متطرفة أخرى، وليس فقط من الحوثيين. كنت أصرّ على البقاء في اليمن، لأنني كنتُ أعرف الجهة التي ستقتلني، وكنتُ أخرج للشارع وأكتب مقالاتي بقدر ما أستطيع من حرية. لكن بعد اندلاع الحرب وتعددها بات من الصعب معرفة هوية القاتل، وقد يموت المرء برصاصة طائشة».

وسألت رغد السهيل، إحدى ضيوف الحلقة، عن شخصية «ماما» في رواية «بخور عدني»، فأوضح أن «اختيار اسم الشخصية له علاقة بالمكان وفكرة التنوع العدني، فهو قريب من فكرة الأم التي تحتوي الجميع».

وفي الختام، شكرت رئيسة مجلس إدارة «لوياك» العضوة المنتدبة لأكاديمية لابا، فارعة السقاف، ضيف البرنامج على «سعة صدره ووقته وفرصة التعرف عليه عن قرب»، وأشادت بجهود الإعلامية برغوت وخبرتها، وبتطور مستوى المشاركين لناحية طرق إدارة الحوار، «لقد كانت فعلًا من أكثر الورش التدريبية والحلقات الحوارية متعة».

وإذ تحدث عن علاقة طيبة تربطه بالكويت، توجه الشاعر اليمني بالشكر إلى السقاف، التي فتحت له مجال اللقاء بعدد من المشاركين، «وقد لفتني تعمقهم في رواياتي وتفاصيل حياتي، والشكر موصول إلى الإعلامية برغوت على تميزها».

يذكر أن «الجوهر» للتدريب الإعلامي، وهو البرنامج الأول من نوعه في المنطقة، يُنفذ للعام الرابع، برعاية شركة المركز المالي الكويتي (المركز)، جريدة «الجريدة»، شركة الصناعات الهندسية الثقيلة وبناء السفن (هيسكو)، فندق فوربوينتس شيراتون، ويقدم البرنامج للشباب العربي ورش عمل إعلامية مكثفة على يد أبرز الإعلاميين العرب، لتدريبهم على فنون ومهارات الحوار الإعلامي، لمحاورة ضيوف رياديين تركوا بصمة في شتى المجالات بالوطن العربي.

back to top