الكرملين لن يستسلم بلا قتال

نشر في 11-11-2022
آخر تحديث 10-11-2022 | 18:46
فلاديمير بوتين
فلاديمير بوتين
من الأفضل أن يتذكر الأميركيون والأوروبيون في تعاملهم مع روسيا المقولة القديمة: لن تكون روسيا يوماً قوية بقدر ما توحي به، ولا ضعيفة بقدر ما تبدو عليه.,من الأفضل أن يتذكر الأميركيون والأوروبيون في تعاملهم مع روسيا المقولة القديمة: لن تكون روسيا يوماً قوية بقدر ما توحي به، ولا ضعيفة بقدر ما تبدو عليه.
كان الغزو الروسي لأوكرانيا خطأً استراتيجياً مريعاً، فقد أضعف روسيا عسكرياً، واقتصادياً، وجيوسياسياً، وجاء الهجوم الأوكراني في خاركيف، في شهر سبتمبر الماضي، ليؤكد فداحة الخطأ الذي ارتكبه الرئيس فلاديمير بوتين، فبعدما أصبحت القوات الروسية مُنهَكة وخسرت زخمها في ساحة المعركة، أخذت أوكرانيا زمام المبادرة ووجّهت ضربة حاسمة ضد الجيش الروسي. لكن بدل الاستسلام، ردّ بوتين على المشاكل المستجدة عبر إعلان التعبئة العسكرية الجزئية، وفرض عقوبات أكثر صرامة على من يهرب أو يستسلم من الجنود، حتى أنه أقدم على ضم أربعة أقاليم أوكرانية بطريقة غير شرعية، وتعامل مع تراجع حظوظ روسيا في أوكرانيا كما فعل رداً على انكماش دوره على الساحة العالمية، فأخذ رهاناً محفوفاً بالمخاطر، وتفاجأ الرئيس الروسي على ما يبدو بتسارع النزعات القديمة التي تُسهّل تراجع البلد بسبب الحرب في أوكرانيا.

في هذه الظروف، قد يميل الكثيرون إلى الاستخفاف بروسيا كمصدر تهديد، لكنها فكرة مغلوطة، ولا يقتصر السبب على استمرار الحرب وعدم انتصار أي طرف فيها بعد، ففي أوكرانيا وأماكن أخرى، قد تحاول روسيا التعويض عن ضعفها عبر الاتكال على أدوات غير تقليدية، بما في ذلك الأسلحة النووية، بعبارة أخرى، قد يتراجع النفوذ الروسي، لكن لا يعني ذلك أن التهديدات الروسية تتجه إلى الانحسار، بل من المتوقع أن تتفاقم جوانب معينة من المخاطر المطروحة، ففيما يتعلق بالغرب، يعني الاعتراف بهذا الواقع التخلي عن أي آمال قصيرة الأمد بمعاقبة موسكو ومتابعة دعم الأطراف التي تستهدفها روسيا، ويجب أن تبدأ هذه الجهود في أوكرانيا، فيقدّم الأميركيون وحلفاؤهم دعماً متواصلاً إلى كييف لضمان هزيمة روسيا، لكن حتى لو خسر بوتين، لن تتلاشى المشكلة التي يطرحها بلده، بل إنها قد تتفاقم على مستويات عدة، لذا يُفترض أن تزداد قوة الردود الغربية في الوقت نفسه.

روسيا ليست في مكانة تسمح لها ببدء حرب أخرى اليوم، لا سيما ضد حلف الناتو، لكن ذلك لا يعني أن يستخف بها صانعو السياسة الغربية، فقد تحتاج روسيا إلى عقدٍ من الزمن لاسترجاع قواتها التقليدية بعد هجومها على أوكرانيا، لكن الناتو يواجه بدوره مشاكل من هذا النوع، وسيحتاج أعضاؤه إلى سنوات لاسترجاع الأسلحة والذخائر التي أرسلوها إلى أوكرانيا خلال هذه الحرب. كذلك، من المستبعد أن تسعى موسكو إلى إعادة بناء الجيش نفسه، ببنيته الهشة، وتدريباته الضعيفة، وقدراته اللوجستية الشائبة، نظراً إلى إخفاقات روسيا الواضحة في هذه الحرب.

يظن البعض أن ضعف أداء روسيا في أوكرانيا يسمح للولايات المتحدة بتكليف أوروبا بمعالجة التحديات الروسية، مما يُسهّل على واشنطن التركيز على بكين، لكن جاءت هذه الحرب لتُذكّر الجميع بالسبب الذي جعل الدفاع الأوروبي يتكل على الولايات المتحدة وما يجعله يتابع الاتكال عليها مستقبلاً، إذ تعني القدرة على استعمال القوة العسكرية على نطاق واسع معالجة المشاكل على مستوى الخدمات اللوجستية، والقيادة والتحكم، والتواصل بين مئات آلاف الجنود، فلا مفر من أن تواجه البلدان الأوروبية مشاكلها الخاصة لإطلاق العمليات الرامية إلى التصدي لأي حملة روسية مستقبلية بالحجم الذي أطلقته موسكو ضد أوكرانيا، ومن السذاجة أن نتوقع نجاح أي بلد أوروبي في تقديم الدعم على مستوى التكامل، والتمكين، ووظائف أساسية أخرى، بقدر ما تفعل الولايات المتحدة في الوقت الراهن، وسيكون التخطيط الدفاعي الذي يستند إلى قدرة واشنطن على تسليم التحديات الروسية إلى أوروبا خلال العقد المقبل مجرّد أمنيات غير واقعية.

الكرملين أثبت أنه يهتم بالنزعة الانتقامية الإمبريالية أكثر من الاستقرار الاستراتيجي

كذلك، تؤكد الحرب الروسية ضد أوكرانيا على المسار الحتمي الذي تتخذه الحروب الكبرى وبلوغها مرحلة الاستنزاف، وهي تشدد على أهمية استبدال الكميات المفقودة من المواد والعناصر والذخائر، كما يواجه حلف الناتو شوائب عدة على جميع المستويات في هذه المجالات كلها، فقد كان أي جيش أوروبي سيتراجع ميدانياً منذ وقتٍ طويل إذا واجه ولو جزءاً بسيطاً من الخسائر التي تكبّدتها القوات المسلحة الروسية أو الأوكرانية، كما يملك الناتو أيضاً مخزوناً ضئيلاً من الأسلحة المتقدمة، وغالباً ما تتألف جيوشه من منصات مكلفة ويصعب استبدالها، وهو يتكل على قدرات صناعية ودفاعية قد تجد صعوبة في تكثيف الإنتاج، فبعد ستة أشهر من الدعم المتواصل لأوكرانيا، انكشفت ثغرات كبرى في القدرة الغربية على إنتاج الذخائر وقطع الغيار الأساسية، وفي النهاية، تبقى مساعي أوروبا لتقوية دفاعها محاولة نبيلة، لكن لا يمكن بلوغ هذا الهدف على الأرجح قبل مرور سنوات أو حتى عقود.

لن تكون روسيا في عهد بوتين شريكة في الأمن الأوروبي يوماً، لقد أثبت الكرملين أنه يهتم بالنزعة الانتقامية الإمبريالية أكثر من الاستقرار الاستراتيجي بكثير، فعلى المدى القريب، يجب أن يتعاون الأميركيون وحلفاؤهم إذاً لتقليص مخاطر التصعيد، لا سيما التبادل النووي، ولإضعاف قدرة روسيا على شن الحروب، كانت واشنطن محقّة حين علّقت الحوار مع روسيا حول الحد من التسلح والاستقرار الاستراتيجي، لكن يجب أن تحافظ على تواصلها مع موسكو لتجنب اندلاع أي مواجهة نووية، وفي الوقت نفسه، يُفترض أن تُخطط الولايات المتحدة مع حلف الناتو للتعامل مع زيادة اتكال روسيا على التكتيكات غير التقليدية، بما في ذلك احتمال اللجوء إلى التهديدات النووية أو استعمال الأسلحة النووية بدرجة محدودة.



في غضون ذلك، يجب أن تسعى واشنطن إلى احتواء روسيا وتقييدها لمنعها من ارتكاب أعمال عدائية وراء حدودها، ولإضعاف القوة الروسية، يجب أن تتكل الولايات المتحدة على السياسات التي طبّقتها بعد غزو بوتين لأوكرانيا، فتتابع مساعدة أوروبا في وقف اتكالها على إمدادات النفط والغاز الروسية وتعيد تصنيع الأسلحة التي قدّمتها إلى أوكرانيا، كذلك يُفترض أن يزيد الأميركيون وحلفاؤهم استثماراتهم لتفعيل العقوبات، وقيود الصادرات، وتدابير مكافحة الفساد ضد روسيا، وتبرز أدلة منذ الآن على مساعي روسيا للتحايل على هذه التدابير كلها، ويجب أن يمنعها الغرب من تحقيق هدفها، ويتطلب تقييد موسكو أيضاً أن يتابع الأميركيون وحلفاؤهم الأوروبيون التواصل مع الهند وبلدان حيادية أخرى في إفريقيا والشرق الأوسط لأنها تشكّل حتى الآن حبل نجاة لروسيا، وذلك يعني زيادة التركيز على الجنوب العالمي، حيث تتمتع روسيا بنفوذ متوسّع وتستطيع نشر أفكارها.

لكن على المدى الطويل، سيستفيد الأميركيون والأوروبيون من استرجاع علاقة مستقرة مع روسيا، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف طالما يبقى بوتين في السلطة، ولا مفر من رحيل بوتين يوماً، وسيكون تغيير القيادة الروسية، لا سيما في النظام السياسي الروسي الذي يحمل طابعاً شخصياً مفرطاً، فرصة مناسبة لإعادة فرض المعايير التي تحمي هذه العلاقة، وقد يتمسك أي زعيم روسي مستقبلي بالرغبة في استعادة نفوذ روسيا على الساحة العالمية، لا سيما في محيطها، لكن من الواضح أن أوكرانيا تشكّل هوساً حقيقياً لبوتين شخصياً، وإذا واجهت روسيا هزيمة مدوّية في أوكرانيا، فقد تتعلم النُخَب الروسية المستقبلية درساً قيّماً حول حدود القوة العسكرية، كذلك، قد يبحث الزعيم المستقبلي عن خيارات أخرى ويطبّق سياسة خارجية أقل عدائية تجاه الغرب في ظل زيادة تبعية روسيا لبكين، إذ تكون الثقافات الاستراتيجية قابلة للتبدل مع مرور الوقت، وقد تتغير أحياناً بعد التعرض لهزائم كبرى.

لهذه الأسباب، يجب أن يواجه الأميركيون وحلفاؤهم موسكو تزامناً مع التمسك بقيمهم، وذلك يعني أن يتطرقوا في النقاشات إلى مبدأ المسؤولية الجماعية ويحددوا أشكال العقاب الجماعي، ويُفترض أن تساعد الحكومة الأميركية المنفيين من صحافيين، وناشطين، ومواطنين روس يدعمون نسخة أكثر تحرراً وديموقراطية من روسيا، عبر تقديم فرص مهنية في الولايات المتحدة للمضطهدين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين مثلاً، وعبر معالجة الشوائب في تنفيذ سياسات مكافحة الفساد والعقوبات كونها تُسبب أضراراً جانبية للناشطين المقموعين في المجتمع المدني.

وفي حين يتعامل الأميركيون وحلفاؤهم مع نظام بوتين الحالي ويفكرون بمن سيأتي بعده، فمن الأفضل أن يتذكروا هذه المقولة القديمة: لن تكون روسيا يوماً قوية بقدر ما توحي به، ولا ضعيفة بقدر ما تبدو عليه، فغالباً ما يمرّ هذا البلد بجولات من التعافي والركود والتراجع، ورغم قدرات روسيا الواسعة وتراجع مكانتها العالمية بسبب الحرب في أوكرانيا، سيتابع البلد التحرك انطلاقاً من مشاعر البغض، ويسعى إلى إيجاد مساحة جيوسياسية خارج حدوده، ويحاول تحسين مكانته، فلا تستطيع واشنطن أن تتحمّل كلفة الاستخفاف بروسيا لمجرّد أنها تريد تخفيف أعبائها، ويجب ألا تتوقع من أوروبا النجاح في معالجة المشكلة القائمة بنفسها، فقد يتغير التهديد المطروح إذاً لكنه مستمر.

أندريا كيندال تايلور، مايكل كوفمان

back to top