رسالة من تحت الأمعاء

نشر في 30-08-2023
آخر تحديث 29-08-2023 | 20:09
 حسن العيسى

ألم شديد هبط عليك دون إنذار، مغص في جوف أمعائك أضحى كحبال ثقيلة تدفع برأسك نحو ركبتيك وتقيدهما معاً، تتكور، أصبحت كائناً ملتوياً على ذاته مثل جراد البحار «ربيانه» رأسها المقطوع يعانق ذيلها... أنت الآن جريجور سامسا بقوة الألم من دون أن تكون وليد خيال كافكا.

الطبيب في المستشفى الخاص... يجتهد ويشخص، طبعاً بعد أن تلقت إدارة المستشفى إشارة خضراء من «عافية» تقول تمت الموفقة على صرف مبلغ... ثم كتاباً آخر من عافية «الله يعافيها»... يتحدث عن صرف مبلغ آخر لحقنة مسكن الألم... ثم كتاباً رابعاً وخامساً... في النهاية هناك حدود لكل شيء فليست كل المسائل المالية هي ميزانية دولتنا الحصيفة بشعار «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»، فعملية جراحية مكلفة مسألة لن تكون قابلة للموافقة من «عافية» الله يعافيها.

ينصحك جراح ماهر، وهو للصدفة ابن صديقك، بالذهاب فوراً لمستشفى جابر. هناك الأمور في المستشفى الحكومي الجديد منظمة تماماً... لم تقصر الحكومة ويا ليت كل أمورنا هي مستشفى جابر، يتم فحصك من كواكب ونجوم من أبنائنا وبناتنا الشباب، يقرر الجراح إجراء عملية فوراً... ضوء ساطع ينبعث من جهاز طبي كبير يسلط عليك، جراحون وأطباء وهيئة تمريضية لا تستطيع قراءة وجوههم ولا تعرف من سيكون سيد المشرط الذي سيشق جوفك ليجتث الداء، فكلهم وضعوا كمامات لا تنبئك عن القادم، لماذا تذكرك غرفة العمليات بدكان الحلاقة؟ أنوار قوية ومقصات تتشابه في المكانين، تسلم عند الحلاق شعر رأسك بينما ترهن عند الجراح مصيرك... في ماضي الفقر كان الحلاق هو الجراح الذي يقول لك: انظر للطير فوقك... وبحركة سريعة من موسه البتار يتم ختانك.

لا توجد أفكار ولا خيالات سارحة في مسرح العمليات، جسدك وقلقك هما كل شيء، لا بأس عليك إن تملقت هذا الطبيب أو ذاك الجراح بنكتة بايخة أو بحكاية تافهة لربما يزيد الجراح من عطفه وحرصه في تطبيبك.. يضعون على وجهك كماماً بلاستيكياً أو مطاطاً (لا أدري) متصلاً بأنبوب ممتد ينبعث منه غاز لطيف يرحل بك إلى عالم العدم... يخبرونك أن عملية الجراحة استغرقت ست ساعات... من يكترث؟! ست ساعات أو 60 ألف سنة ضوئية رحلت بك إلى مجرة بعيدة... لا يوجد عالم خارجي... عدم في عدم وكأن الوجود كذبة... لا توجد ظواهر تكتسبها من تجارب... كنت في مكعب غاب عنه الزمان- المكان.

كتب أتول غاوندي في كتابه «كونك منتهياً... الطب وما يهم في النهاية» (ليس هو الموت ما يخشاه الكهول... هو ما يحدث في فترات قبل النهاية... تفقد سمعك... تفقد ذاكرتك، رحل عن دنياك أصدقاء الأمس، العمر الممتد هو شريط من الخسائر المتتالية، الروائي الإنكليزي فيليب روث قال: الشيخوخة ليست معركة... هي مجزرة).

كانت تلك رسالة مختصرة من أمعاء استهلكها الزمن.

back to top