كيف يُصنع القرار؟

نشر في 27-08-2023
آخر تحديث 26-08-2023 | 19:22
 د. بلال عقل الصنديد

تتميز حياتنا المعاصرة بتنوع الخيارات وكثرة التعقيدات، مما أثر جلياً في عملية «صنع القرار» التي أصبحت تواجه تحديات عديدة ومتنوعة على المستويين الفردي والمؤسسي، هذا مع التسليم بأن حسن اتخاذ القرار يحدد الاتجاه الصحيح للمسار، إذ إن اتخاذ قرار مدروس ومناسب هو مهمة حاسمة في العديد من المجالات الإدارية، والاقتصادية، والقانونية، والشخصية والاجتماعية.

تتكون عملية صنع القرار من سلسلة ضوابط وخطوات مترابطة يؤدي الالتزام بها إلى الوصول إلى نتيجة ناجحة أو مرضية على الأقل، وهي تبدأ بمواصفات متخذ القرار مروراً بتحديد المشكلة والبدائل الممكنة لحلها، واختيار الأنسب منها من خلال اتباع منهجية علمية تأخذ بالاعتبار العوامل المؤثرة في القرار المرتقب وتتوقع آثاره وتقيّم نتائجه.

ففي جميع المجالات، وفي كل الظروف، يجب أن يتوافر لدى صانع القرار بعض المهارات والقدرات لضمان الجودة والملاءمة فيما يستهدف تحقيقه، وذلك مع التسليم باختلاف هذه السمات- نوعاً وحجماً- باختلاف الأشخاص والأحوال، دون تجاهل وجود بعض القواسم المشتركة التي يجب أن تتوافر في جميع متخذي القرار، ومن أبرزها: عنصر الكفاءة، والقدرة التحليلية والسمو الأخلاقي.

يقتضي أولاً أن يتمتع متخذ القرار بمعرفة عميقة بالمجال الذي يدور في فلكه القرار، إضافة الى تمتعه بخبرات متراكمة تؤهله إلى فهم السياسات والإلمام بالإجراءات ومعرفة الاشتراطات وتوقع التحديات، فلا يمكن لصانع القرار القانوني مثلاً أن يكون جاهلاً بالنصوص القانونية والسوابق القضائية والآراء الفقهية والأبعاد والنتائج المتصلة بموضوع القرار المراد اتخاذه، سواء أكان ذلك في مجال التشريع أم في مجال الحكم القضائي أم في مجالات الإفتاء أو الكتابة القانونية.

من ناحية أخرى، يجب على صانع القرار أن يكون قادراً على التعامل مع المعلومات المتاحة له بمنهج تحليلي ونقدي، ويشمل ذلك الدقة والموضوعية في استيعاب وجهات النظر المختلفة والمقدرة على وضع البدائل المتنوعة مع ترجيح الأفضل منها.

أما من حيث المقاربة الأخلاقية فعلى صانع القرار أن يتمتع بسمو أخلاقي يجعله قادراً على تناول الموضع بجدّية وحيادية، وتقييم عواقب القرارات المتوقع ومواءمتها مع القيم السامية مثل العدالة والمساواة واحترام الحقوق الأساسية.

وفي سبيل تحقيق ذلك يجب على الشخص أو المنظمة المعنية اتخاذ القرار وفهم أبعاده وأهدافه الرئيسة، الأمر الذي يتمثل بتحديد الغاية والنتيجة المرجوة من خلال تفكير استراتيجي يبدأ بوضع مخطط واضح وبدائل ممكنة وصولاً إلى نتيجة مبتغاة.

وهذا يتم باتباع منهجية عمل تبدأ بجمع المعلومات المتصلة بموضوع القرار من مصادر متعددة وموثوقة، ومن ثم دراستها وتقييم العوامل المترابطة والمؤثرة بشكل مدروس ومعتمد على أسس واضحة، فيبرز هنا دور الأبحاث والتحليلات والإحصاءات والتجارب السابقة التي يجب التعامل مع معطياتها بمنهج علمي وخبرة عملية وتقييم مدى صلتها ومقدار جودتها وحجم فائدتها في عملية صنع القرار.

وفي السياق يمكن أن يتدرج هذا المنهج من مجرد عمل ذهني بسيط فيما يتعلق بالقرارات السهلة وغير المصيرية، الى استخدام أدوات ربط وتحليل مختلفة ومعقدة مثل المصفوفات، والرسومات، والأدوات الحاسوبية، ومعادلة التكلفة والفائدة، وتحليل المخاطر، ودراسة تقييم الأثر، وذلك في المجالات الأكثر تعقيداً وحساسية وأهمية.

ويتخلل مسار التجميع والتحليل والتقييم المؤدي منطقياً الى اعتماد الخيار الأنسب، استشارة أصحاب المصلحة المتأثرين بالقرار بالإضافة الى ذوي الخبرة والاختصاص، ويتيح ذلك الحصول على آراء متعددة ومختلفة مما يفيد في تحقيق المواءمة بين المصالح والمخاوف المتقاربة أو المتضاربة، وهذا ما يقتضي أن يتبع بتثبيت الخطوات العملية اللازمة للتنفيذ وتحديد الموارد والجهود المطلوبة لذلك، إضافة إلى الجدول الزمني المتوقع من ضمن خطة عمل قابلة للتطبيق وتلقى دعماً كافياً من كل الأطراف المعنية والمؤثرة.

ينتهي كل ذلك باتخاذ القرار على أرضية صلبة تسمح للمقرر بالمدافعة عنه وتبرير المعطيات والآثار المرتبطة به أو الناتجة عنه، مع المقدرة والمرونة اللازمين لسماع الرأي الآخر والتعامل معه بتجرد وموضوعية، الأمر الذي يتبعه بشكل تلقائي واجب مراقبة التنفيذ وتقييم النتائج والرجوع عن أي خطأ مكتشف، ومن ثم إجراء التعديلات والتحسينات اللازمة وصولاً للغايات المنشودة.

ورغم التقاء عملية صنع القرار في المجالات المختلفة على ما سبق من ضوابط ومنهجية، فإن لكل مجال بعض الخصوصيات التي يتفرد بها، وفي السياق نشير- على سبيل المثال- الى أن صنع القرار في المجال الاقتصادي يعتمد بشكل رئيسي على التحليل المالي الدقيق الذي يقوم على حسن قراءة البيانات المالية والمؤشرات الاقتصادية وحصافة التوقعات المستقبلية للأسواق والاقتصادات وتقدير العوامل المحتملة التي تؤثر على الأداء الاقتصادي وقرار الاستثمار، في حين تتطلب عملية صنع القرار في المجال الإداري، التركيز على حسن التخطيط والتنظيم والقيادة والتوجيه، بما يشمل تحديد الرؤية ووضع الأهداف، بالإضافة الى تنظيم الموارد والالتزام بالإجراءات والترتيبات وحسن إدارة وتوجيه الفرق العاملة.

* كاتب ومستشار قانوني

back to top