خاص

الفهم القاصر لأبجديات التنمية يُسقِط رؤية 2035

• اعتبار مشاريع البنية التحتية إنجازاً تنموياً نظرة غير صحيحة يجب تجاوزها
• أي رؤية لا تستهدف الاستدامة أو معالجة اختلالات الاقتصاد تمثل عبئاً على التنمية

نشر في 10-08-2023
آخر تحديث 09-08-2023 | 18:55
محمد البغلي
محمد البغلي

لم يكن إعلان وزير المالية بالوكالة سعد البراك في جلسة مجلس الأمة قبل نهاية دور انعقاده الأسبوع الماضي أن رؤية الكويت 2035 «لم ينفذ منها شيء» مُستغرَباً لأي متابع لما يعرف بمشاريع الإصلاح الاقتصادي والمالي ربما منذ مطلع الألفية الحالية إلى يومنا هذا.

فمن لجنة إصلاح المسار الاقتصادي عام 2001 التي ضمت مجموعة من كبار الشخصيات المالية والاقتصادية من مسؤولين رسميين ومستقلين، مروراً بمشروع الدولة الأساسي كتحويل الكويت مركزاً تجارياً ومالياً 2006، ثم تقرير توني بلير 2008 فدراسة اللجنة الاستشارية الاقتصادية 2011 بالإضافة إلى تقرير ماكنزي 2012 ودراسة إرنست آند يونغ 2014، وخطط التنمية الأولى والثانية والثالثة من 2009 إلى 2024 علاوة على وثيقة الإصلاح الاقتصادي والمالي 2016 ووثيقة استدامة 2018 إلى جانب العديد من التقارير الخاصة بالمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية وصولاً إلى إطلاق رؤية 2035 عام 2017 ثم إعلان وفاتها في جلسة مجلس الأمة الأخيرة، كان الفشل كامناً في فلسفة هذه الخطط وآليات تنفيذها وبرامج متابعتها، بل حتى مصداقية من يديرها، والأهم من هذا كله الفهم الخاطئ لمفهومها الذي غالباً لا يفرق بين التنمية كمفهوم اجتماعي اقتصادي يستهدف الاستدامة وبين مشاريع البنية التحتية التي لا يعني تنفيذها بالضرورة إحراز تقدم في جودة الخدمة أو احتياجات الاقتصاد.

فشل متكرر

في الحقيقة فإن ما أعلنه الوزير البراك بشأن فشل مشروع الرؤية ليس الأول من نوعه على مستوى ما يمكن وصفه بمشاريع الإصلاح الاقتصادي، بل سبقه وزير المالية الأسبق الشيخ سالم الصباح عندما أعلن فشل خطة التنمية الأولى لأنها كانت ضخمة جداً وأكبر من قدرات الجهاز التنفيذي للدولة.

فشل عشرات محاولات الإصلاح الاقتصادي بات سمة مكررة لأي مشروع حكومي منذ لجنة «إصلاح المسار الاقتصادي» عام 2001

لتَتبعها خطة التنمية الثانية التي قلصت أهدافها نحو المشاريع الإنشائية وتطوير القطاع العام ولم تنجح في مهمتها، لتأتي خطة التنمية الثالثة التي اكتفت ببرامج التحول الرقمي في أجهزة الدولة وتغيير دور الدولة في الخدمات العامة من التشغيل إلى التنظيم أي الخصخصة ولم تتحقق أيّ من أهداف هذه الخطة، ناهيك عن وثائق «الإصلاح واستدامة» التي اكتشف لاحقاً أنها ناقصة لمؤشرات القياس والتقييم والمتابعة.

«إبر بنج»

ولعل إعلان الوزير البراك نية الحكومة تطوير خطة التنمية بحيث تبدأ الرؤية الكويتية من 2024 حتى 2040 يستوجب وضع قواعد جديدة وجادة يتم من خلالها إحراز نجاح حقيقي على صعد الاقتصاد والمالية العامة والجهاز التنفيذي للدولة ضمن آليات قياس حقيقية وبرامج تنفيذ صارمة ونظم متابعة وتقييم توضح مكامن القوة والضعف في أي استراتيجية حكومية، فإعلان فشل خطة معينة واستبدالها بأخرى يتطلب الكثير من الجهد والجدية ونماذج النجاح.

«دور ناقص» للإدارة المركزية للإحصاء في تقديم البيانات الضرورية لمتخذ أي قرار مالي أو اقتصادي

ولأن خطط التنمية خلال السنوات الماضية لم تكن أكثر من «إبر بنج» لتجاوز الإخفاق الاقتصادي والتنموي وانحراف سياسات الإدارة المالية وتضخم الإدارة الحكومية وعدم اتساق الإنفاق المالي المتضخم مع العوائد الاقتصادية أو التنموية أو الخدمية، فضلاً عن بروز قضايا فساد غير مألوفة في صناديق الجيش و»الماليزي» والضيافة وتضخم حسابات لسياسيين ومشاهير... إلخ، فإن الحديث عن إصلاح إدارة خطة التنمية ووضع آليات تمنع انحرافها أو فشلها هو ما يجب أن يكون الأولوية الحكومية قبل صياغة أي خطة جديدة لئلا تلقى مصير سابقاتها.

بيئة ذات أعباء

مع التأكيد أن بيئة الإدارة العامة في الكويت غير مشجعة على الإنجاز من جهة سلطة تنفيذية ذات طبيعة تشكيل غير مرتبط بمعايير برامج العمل، إنما معايير المحاصصة والولاءات وما يترتب على ذلك في تعيين القياديين في أجهزة الدولة وسلطة تشريعية تغلب عليها فردية العمل النيابي وما يترتب عليه من مشاريع شعبوية ذات أعباء مستدامة على مالية الدولة واقتصادها، فإنه على صعيد العمل التنفيذي الصِرف، فمن المهم العمل على إصلاح أوضاع الجهة المكلفة متابعة وقياس وتنفيذ أي خطة تنمية، وهي الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية التي تعاني مواطن ضعف واضحة في عملها ساهمت في فشل العديد من الخطط التنموية السابقة.

دور ناقص

فـ «أمانة التخطيط» يجب ألا ينحصر دور ما يعرف بتقارير المتابعة فيها بمجرد تجميع البيانات من الجهات الحكومية المختلفة ثم عرضها دون تمحيص أو إبداء الرأي بل أن تمارس دور الناقد والراصد لمواطن القصور والإخفاق والانحراف في التنفيذ مع تقديم أفكار مستقبلية، وما دمنا بالحديث عن الأرقام فمن المهم الإشارة إلى «الدور الناقص» الذي تمارسه الإدارة المركزية للإحصاء في تقديم البيانات الضرورية لمتخذ أي قرار مالي أو اقتصادي كتوقفها عن إصدار تقديرات الناتج المحلي الإجمالي منذ نهاية عام 2020 أو إجراء المسح السنوي للدخل والإنفاق الأسري مرة واحدة خلال 9 سنوات ليشمل دون تقديم مبرر 3 سنوات في سنة واحدة، فضلاً عن تأخر بيانات التضخم خلال أهم فترة تحتاج بيانات عن أسعار السلع كفترة جائحة كورونا، وهذه أوضاع غير سليمة تجعل عملية قياس فاعلية أي سياسة أكثر ضبابية.

نسب الإنجاز

ولعله من المفيد التأكيد على أن مسألة احتساب نسب الإنجاز من خلال ما تم إنفاقه مالياً على أي خطة أو مشروع أو حتى ما تم بلوغه من جهة الأعمال الإنشائية أو المقاولاتية بحاجة إلى مراجعة، فالإنجاز يحتسب من خلال ما تحقق من أهداف وليس ما أنفق من أموال أو ما بلغه من مراحل البناء، خصوصاً إذا كان هذا المشروع مرتبطاً بجانب تنموي أو خدمي كإصلاح التعليم أو تطوير القطاع الصحي أو توعوي أو مهني كتطوير أنظمة السلامة المرورية، أو رخصة المعلم، أو تطوير الإدارة الضريبية، أو استراتيجية الكويت لتطوير النزاهة، فمثل هذه المشاريع لا يمكن قياس الإنجاز فيها بما ينفق عليها من أموال أو بافتتاح مبانيها بل بما تحقق من أهداف وهذا انحراف عميق في آليات قياس الأداء في خطة التنمية.

احتساب نسب الإنجاز من خلال ما تم إنفاقه مالياً أو ما تم بلوغه من جهة أعمال البناء أمر غير صحيح بحاجة إلى مراجعة

فمثلاً، لا يمكن اعتبار أن برنامج تطوير أنظمة الرعاية الصحية قد بلغ مستويات إنجاز من 60 إلى 100 في المئة حسب إتمام صرف وتنفيذ مشاريع بناء توسعات المستشفيات الجديدة فالرعاية الصحية بمفهومها التنموي أوسع من مجرد الصرف والبناء على مرافق صحية جديدة بل يمتد إلى جودة الخدمات الصحية ومدى قدرتها في رعاية كبار السن أو تقليص مدد المواعيد والمراجعات أو مدى توفر الكادر الطبي والتمريضي وغيرها من معايير جودة النظام الصحي التي تعد المباني الجديدة أساساً لها، لكن لا يمكن اعتبارها ضمن نسبة تحقيق الأهداف الخاصة بجودة النظام الصحي.

احتياجات الاقتصاد

ما تحتاجه الكويت من وجود رؤية مستقبلية يجب أن يرتبط بجدية عالية بمعالجة أبرز اختلالات اقتصادها، كمحدودية الإيرادات غير النفطية وسط تقلبات أسواق الطاقة أو تحديات سوق العمل في ظل مجتمع شاب جله من مواليد الألفية الجديدة، ناهيك عن اختلال التركيبة السكانية بما يترتب عليها من متاجرة بالإقامات والعمالة غير الماهرة، فضلاً عن أهمية رفع دور القطاع الخاص ضمن الناتج المحلي الإجمالي بالتوازي مع إصلاح البيئة الاستثمارية ليكون بيئة إيرادات ضريبية وفرص للعمالة الوطنية، إضافة إلى تدارك التراجع اللافت في مؤسسات التعليم وجذب التكنولوجيا وتحقيق الأمن الغذائي وغيرها من متطلبات التنمية الفعلية أما الاعتقاد بأن إنجاز مشاريع البنية التحتية «صرفاً وبناءً» وهو إنجاز تنموي فهذا فهم قاصر لأي رؤية وعبء يضاف لأعباء ضعف آليات القياس وانحراف النتائج عن الأهداف المفترضة.

back to top