صراع الأقطاب!

نشر في 09-08-2023
آخر تحديث 08-08-2023 | 20:22
 د. محمد المقاطع

منذ عام 1921، وهي سنة صراع الأقران من أبناء الأسرة الحاكمة في الوصول إلى سدّة الحكم، لم تخلُ أي مرحلة لاحقة من «حالة صراع الأقران أو الأقطاب»، وأمام غياب كامل لنظام محدد ومحبك داخل الأسرة في آلية وإجراءات حسم اختيار حكام المستقبل، على التوالي بعد ولي العهد، باستثناء المحاولة اليتيمة التي دشّنت بها تلك المرحلة ومن قبل أهل الكويت بما عُرف بـ «وثيقة 1921»، فإن باب الصراع بين الأقران أو الأقطاب كان وسيبقى مشرعاً على مصراعيه، ولا يمكن أن يتم وقف أو لجم أو منع هذا الصراع، بمجرد الأمنيات والركون إلى حكمة المتصارعين وفطانتهم، أو اعتبار الزمن علاجاً لها، وهو ما ثبت فشله، ولذلك فهي حالة حاضرة حتى اليوم، وتؤثر على حالة استقرار البلد.

وقد دفع البلد أثماناً باهظة وبصورة متعاقبة من «حالة صراع الأقران»، فلئن كانت مرحلة الثلاثينيات مسرحاً لصراع سياسي صاحبه نزاع غير سلمي، تم من خلاله تكوين تحالفات متضادة مع فئات مختلفة من مكونات المجتمع الكويتي، إلّا أنها لم تكن صراعات خالية من التهديد لاستقرار البلد واستقلاله، حيث تنوعت التحالفات التي انعكست على أسلوب وآليات الصراع، وتعدّد أطرافها بين داخلي وخارجي.

وكان من الطبيعي أن تتكبّد الأطراف المتصارعة خسائر، وتمنح حلفاءها مكاسب محددة، أو تُلحق بهم أذىً بليغاً، وهو ما رأيناه وسجّلته الوثائق التي دوّنت لتلك الفترة، وما جعل تلك المرحلة مقترنة بتسمية الكويتيين لها بـ «سنة المجلس»، وفي نهاية المطاف، فإنّ أفدح الخسائر هي التي كان يُمنى بها البلد، إذ إن حالة «صراع الأقران» غالباً تتحمل تبعاته وانعكاساته السلبية الدولة ومؤسساتها، والتي بقيت واستمرت «على كفّ عفريت» نتيجة ذلك الصراع.

وقد انتقل الصراع لنماذج مختلفة من الاستقطابات في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، فظهرت على شكل هيمنة وسيطرة على نوادٍ رياضية وجمعيات نفع عام، وكذلك مسارح ثقافية، ومع تزايد حدة الاستقطابات وتعدّد الحلفاء، فقد كان وقف ذلك الصراع هو القرار الذي اتُّخذ وقتذاك بحلّ الأندية والجمعيات والمسارح.

ومع بداية مرحلة الاستقلال ووضع الدستور، انتقل الصراع إلى أنماط جديدة لم تُعرف من قبل، فصار هَمُّ أطراف الصراع أن يكوّن كل منهم مجموعة شعبية تؤيده، وتنعكس قوتها بما لها من مقاعد داخل البرلمان، فتسابقوا لاستمالة القبائل الكويتية الموجودة وقتذاك، وتلبية احتياجاتها وتقريبها ليتحقق لهم ذلك، ولم يكن ذلك الخيار كافياً هو الآخر، فاتجه سباق الأقطاب إلى خيار ثالث، خلّف وشكّل اختلالات مجتمعية وسياسية وخيمة على الكويت بكل أسف، ألا وهو خيار التجنيس السياسي العبثي، الذي تم بمجاميع كبيرة، بل صاحبه، بصورة مؤسفة، منح الجنسية الكويتية الأولى مباشرةً للمواطنين المتجنسين الجدد، وقد حقّق هذا الخيار المتهور المتّسم بقصر النظر، مراميه الوقتية بالنسبة إلى بعض الأقطاب المتصارعين آنذاك، لكنّه أفضى إلى حالة واسعة ومتزايدة من التجنيس السياسي والعبث بالتجنيس، بل والازدواج بالجنسية خلافاً للقانون الكويتي، وحالة من التدافع من المتجنسين الجدد للتشفّع وللشهادة لأقاربهم للحصول على الجنسية، فحدثت فوضى تزاحمت فيها الادعاءات والمطالبات، وقد استثمر صراع الأقطاب في تغذية ذلك واستفادت الانتهازية من معطياته، وفي تلك الأجواء حدث ما يُخشى منه وخارج اعتبار أولئك الأقطاب، فشهدت الكويت تزويراً واسعاً للجنسية الكويتية، وتغييراً للبيانات وتغييراً للصفات، وتزايدت الاختلالات في الجنسية الكويتية ازدواجاً وتزويراً وانتحالاً وادّعاءً، مما يتطلب أن تتم غربلة هذا الملف وإعادته إلى حالته السليمة والطبيعية.

وقد انتقل صراع وتنافس الأقطاب للتنافس، بالإضافة للتجنيس، إلى العطايا المالية، والخدمات الحكومية توظيفاً وعلاجاً وترقياتٍ ومحسوبياتٍ، فتدهور معها البلد ومؤسساته، وترهّل الجهاز الإداري، وانتشرت البطالة المقنعة في ظل تغييب متعمد لسياسات الثواب والعقاب، حتى يستمر الأقطاب في ممارسة عبثهم السياسي والإداري على حساب البلد.

كل ما تقدّم يبرهن على خطورة أي مرحلة للشيوخ الذين يتصرفون خارج منظومة الدولة وبمقدّراتها لتحقيق مآرب وطموحات شخصية دمّرت البلد وتواصل تدميره.

ويبدو أن صراع الأقطاب ذاك لا يزال حاضراً، وإن لم يتم حسمه وإنهاؤه ووضع حدّ له من القيادة السياسية، فإنّ البلد سيشهد انهياراً كاملاً وسريعاً لوجوده كله، وهو الهاجس الأكثر خطورة على بقاء الدولة ومَنعتها!.

back to top