مبدأ «عدم رجعية القرار الإداري» والاستثناءات عليه

نشر في 26-07-2023
آخر تحديث 25-07-2023 | 18:44
رغم أن مبدأ «عدم رجعية القرارات الإدارية» يعدّ قاعدة آمرة وملزمة للكافة، نجد أن القضاء الإداري، ولا سيما القضاء الفرنسي الذي يعدّ مرجعية معتبرة في تكوين فكر القانون الإداري في العالم، قد أجاز بعض الاستثناءات التي يمكن بموجبها تطبيق أحكام القرار الإداري على ما سبق صدوره من وقائع.
 د. بلال عقل الصنديد

من اللافت أنّي سُئلت في يوم واحد، من ثلاثة أشخاص مختلفين في الأبعاد الفكرية والمستوى الاجتماعي والاتجاه السياسي، عن مدى جواز تضمين القرارات الإدارية أحكاماً تعود في أثرها الى ما قبل تاريخ صدورها؟! وبغض النظر عن سبب تكرار التساؤل نفسه- الذي ربما يكون لأبعاد أجهلها أو مجرد مصادفة بحتة- فقد يكون مناسباً الإضاءة في شأن مسألة قانونية قد تكون تقليدية لدى المختصين ومهمة لدى المعنيين بها.

من القواعد الثابتة في القانون الإداري أن نفاذ القرار الإداري يسري على المستقبل، بما معناه أن آثاره تنطبق على ما هو آت لا على ما قد فات، وهذا ما يسمى بمبدأ «عدم رجعية القرار الإداري» الذي جزاء مخالفته يعدّ بطلان القرار ذي الأثر الرجعي، وأساسه احترام مبدأين أقرهما القضاءان الدستوري والإداري، قوام المبدأ الأول فيهما المحافظة على «الحقوق المكتسبة» في ظل الأوضاع القانونية السابقة لصدور القرار، في حين يشير المبدأ الثاني إلى «استقرار المراکز القانونية والمعاملات» وتكريس «الأمن القانوني»، هذا بالإضافة إلى ارتباط مبدأ عدم رجعية القرار الإداري بقواعد الاختصاص من حيث الزمان، حيث يقتضي عدم اعتداء مصدر القرار على اختصاص سلفه.

الواقع أن مبدأ عدم رجعية النصوص لا يعدّ خصوصية من خصوصيات القانون الإداري، بل هو مبدأ دستوري تخضع له بشكل مبدئي القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، وفي هذا الشأن تنص المادة (179) من الدستور الكويتي على أنه «لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبل هذا التاريخ، ويجوز في غير المواد الجزائية النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة أغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الأمة».

أكثر ما يتجلى مبدأ عدم رجعية النصوص القانونية في مجال القانون الجنائي، وذلك انعكاساً لنص المادة (8) من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789، ونص المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، ونص المادة (15) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، التي تؤكد جميعها على أنه «لا تجوز إدانة أحد إلا بموجب قانون صدر قبل الأفعال المتهم بها، ولا تجوز معاقبة المتهم بجزاء أشد من العقوبة التي كان معمولاً بها في وقت ارتكاب الفعل»، ويسود أيضاً المبدأ نفسه في مجال القانون المدني، حيث تنص، على سبيل المثال، المادة (2) من القانون المدني الكويتي لعام 1980 على أنه «يسري القانون الجديد على كل ما يقع من تاريخ العمل به، ما لم يرد به نص يقضي بغير ذلك»، ومع ذلك تبقى آثار التصرفات خاضعة للقانون الذي أبرمت تحت سلطان، ما لم تكن أحكام القانون الجديد متعلقة بالنظام العام فتسري على ما يترتب منها بعد نفاذه.

ورغم أن مبدأ «عدم رجعية القرارات الإدارية» يعدّ قاعدة آمرة وملزمة للكافة، نجد أن القضاء الإداري-ولا سيما القضاء الفرنسي الذي يعدّ مرجعية معتبرة في تكوين فكر القانون الإداري في العالم- قد أجاز بعض الاستثناءات التي يمكن بموجبها تطبيق أحكام القرار الإداري على ما سبق صدوره من وقائع، ومن أشهر هذه الحالات الأكثر تداولاً نذكر:

• إباحة رجعية القرارات الإدارية بنص قانون صادر عن السلطة التشريعية، وذلك يعدّ إجازة تشريعية للسلطة التنفيذية بتمكينها من العودة في بعض الحالات المحددة بنفاذ قراراتها الإدارية إلى تاريخ يسبق تاريخ صدورها.

• رجعية القرارات الإدارية لتنفيذ حكم قضائي، ومثال على ذلك حكم القضاء بإلغاء قرار الإدارة بفصل موظف وما يترتب على ذلك من آثار، فتكون الإدارة في هذا الحالة ملزمة بإعادته إلى وظيفته السابقة مع استعادته كامل الحقوق والمزايا التي فاته التمتع بها في فترة انقطاعه عن الوظيفة.

• القرارات الأصلح للموظف، ومن الأمثلة على ذلك أنه إذا ما صدر قرار تنظيمي من شأنه زيادة بعض المزايا للموظفين، يجوز أن يتم تضمينه أثراً رجعياً يعود لتاريخ سابق، كون ذلك يعدّ من مصلحة الموظفين المعنيين به، ولا يمس بسوء مراكزهم القانونية ولا حقوقهم المكتسبة.

• رجعية القرارات الإدارية الساحبة، والقاعدة في هذا الخصوص أن أي قرار تشوبه عدم مشروعية صارخة أو فاقد ركنا من أركانه الأساسية، وهي «الشكل، والإجراءات، والسبب، والمحل، والغاية»، لا يتمتع بأي حصانة بمرور مهلة الطعن القضائية، فتستطيع -لا بل من واجب- الإدارة أن تصدر قراراً بسحبه في أي تاريخ يتم فيه اكتشاف العيب، ويعود ساعتئذ قرار السحب بآثاره الى تاريخ صدور القرار المسحوب.

• القرارات الإدارية التي تنطوي على رجعية بطبيعتها، ومثال على ذلك القرارات التفسيرية التي تصدر منطقياً بعد القرار الذي أثار لبساً في فهمه وتفسيره، فتعود القرارات المفسِّرة في نطاق تطبيقها زمانياً وبما تضمنته من أحكام وتفسيرات الى تاريخ صدور القرار الأصلي المُفسَّر.

• رجعية القرارات الإدارية لمقتضيات سير المرافق العامة، والعلّة في هذا الاتجاه أن القضاء الدستوري الفرنسي رفع مبدأ «سير المرفق العام بانتظام واطراد» إلى مصاف المبادئ الدستورية التي تسمو في احترامها على غير مبادئ أو نصوص أدنى منها مرتبة في سلم التدرج القانوني، فإذا ما أدى تطبيق القرار الإداري بأثر رجعي الى المساهمة في حسن وانتظام سير المرفق العام، استقر القضاء الإداري على سقوط مبدأ عدم الرجعية بما يجيز تطبيق القرار الإداري على ما سبقه من مراكز ومعاملات.

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top