ممدوح النابي: نعيش زمن الانفجار الروائي

• دراسته «البلاغة العمياء» تعيد الاعتبار لإبداع طه حسين في «أدب الرحلات»

نشر في 20-07-2023
آخر تحديث 20-07-2023 | 18:15
«البلاغة العمياء...» عنوان دراسة أدبية لافتة، أعاد بها الناقد الأدبي د. ممدوح النابي الحديث عما أهمله النقاد في مسيرة عميد الأدب العربي طه حسين، خصوصاً في مجال أدب الرحلات، وكان السؤال المحوري كيف كتب حسين في أدب الرحلات وهو الكفيف رغم أن الرحلة تحتاج لإبصار ورؤية مباشرة؟ وفازت هذه الدراسة بجائزة ابن بطوطة مؤخراً. وفي حواره مع «الجريدة»، تحدث النابي عن دراسته، والجائزة التي كان لها دور إيجابي في ظل حالة التعتيم اللامقصود للكتب الفكرية والنقدية، بسبب الانفجار الروائي الكبير الذي نعيشه هذه الأيام... وفيما يلي نص الحوار:

• حصلت مؤخراً على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، عن دراستك «البلاغة العمياء عند طه حسين، بحث في الخيال الرحلي»، ما القضايا التي طرحتها؟

- بداية، يجب الاعتراف بأن كتابات طه حسين (1889 - 1973) متنوّعة، ومتعددة الموضوعات، وتثير الذهن، كما تتمتع برحابة أجناسيّة لا نظير لها، وفي الوقت ذاته تصيب القارئ بحالة اندهاش وتعجُّب من قدرة طه حسين على الكتابة تحت إهاب أنواع مختلفة، وبأطروحات جديدة غاية في الأهمية، والرؤية، فطه حسين كما هو معلوم كان معتادا قضاء إجازة الصيف خارج مصر، في باريس أو لوزان أو سويسرا وغيرها، وبقدر ما كانت هذه الرحلات بغرض الاستجمام، والابتعاد عن الإكراهات التي تعرّض لها بسبب أعماله، إلا أنه استغلّ هذه الرحلات في كتابات مهمّة ولافتة، تكشف البُعد العلمي والثقافي من وراء الرحلات، على نحو كتبه: مع المتنبي ومع أبي العلاء في سجنه، وصوت أبي العلاء، وكأن الرحلات أشبه بالحافزعلى العمل والقراءة المعمّقة، والتأمل. لكن ثمة جانبًا آخرَ عكسته هذه الرحلات، وهو الاهتمام بالجانب الرحليّ على المستويين الثقافي والعلمي، وقد كسر بهذه الكتابات مثل: (رحلة الربيع والصيف، وصوت باريس، ومن بعيد) المفهوم الشائع والسّائد لمفهوم الرحلة، بأنه لا يكتبها إلا مُبصر، فالرحلة كما يقال «عين الجغرافيا المبصرة»، وحسين تجاوز هذا، وقدم رحلات معتمداً آليات جديدة، وهي ما وصفتها بــ«البلاغة العمياء»، إذْ اعتمد عبر هذه الرحلات على الحواس اللابصرية (السمع واللمس والشم والإدراك وغيرها)، فقد استخدم هذه الحواس كبديل لغياب الرؤية المباشرة، ومع إن طه حسين كان يعتمد على راوٍ وسيط (أو مُلقّن)، إلا أنك عندما تقرأ وصفه للأماكن التي زارها، أو وصفه للمسرحيات التي شاهدها، تجد غيابًا تامًا لأيديولوجيا الوسيط، ولا صوت إلا صوت الرواي العائد على طه حسين، وهذه مهارة ميزّت طه حسين، والدراسة في مجملها تبحث عن هذه الآليات التي استطاع من خلالها حسين تحويل اللامنظور إلى مرئي ومشاهد بالعين المباشرة. الشيء اللافت الذي اكتشفته أن معظم الدراسات النقدية التي تناولت أدب الرحلات أسقطت رحلة طه حسين هذه، ولم تسجل آثاره ضمن كتب الرحلات، وهذا أمر في غاية الغرابة.

ابن بطوطة

• ماذا أضافت لك الجائزة؟ وهل أصبحت الجوائز ضروية للكاتب وتوسع من انتشار الكتاب؟

- في ظني لا يُقاس التقدير الأدبي بمقياس مادي، ماذا أعطاك وماذا أخذ منك، التقدير الحقيقي للجائزة في المقام الأول معنوي، وبخصوص هذه الجائزة التقدير كبير جدًّا، فيكفي أن الجائزة مرتبطة باسم «ابن بطوطة» أحد أشهر الرحالة العرب المسلمين، إضافة إلى أنها من مركز ارتياد الآفاق (المركز العربي للأدب الجغرافي) وهو مركز مستقل مَعْنيّ بالأساس بسرديات الرحلة ونقدها، وفي ظني هو المركز الوحيد الذي يضطلع بمثل هذا الجهد، ومن ثمّ الجائزة اعتراف رسمي بقيمة المكتوب حتى لو اختلف البعض حول الجوائز ومعاييرها، وهذا الاعتراف هو الجائزة الحقيقيّة، وهو ما يمنح الكاتب حافزاً للاستمرار ومواصلة العمل في ظل محبطات كثيرة، وفي المقابل لا أنكر الدور الإيجابي للجائزة للترويج للكتاب في ظل حالة التعتيم اللامقصود للكتب الفكرية والنقدية، بسبب الانفجار الروائي الكبير، وعدم إقدام القراء على قراءة الكتب النقدية والفكرية. لو أجرينا إحصائية باهتمامات القراءة لتصدرت الرواية وكتب السير عن الشخصيات المشهورة المرتبة الأولى، وجاءت في ذيل القائمة الكتب الفكرية والنقدية.

موت الناقد

• رغم التطوّر الكبير الذى تشهده السّاحة النقدية فى الوطن العربي، إلا أن هناك مَن يشير إلى أن العرب يعتمدون على المناهج النقدية الغربية مع اجتهادات فردية تمليها شخصية كل ناقد وثقافته، فبماذا ترد على هؤلاء؟

- في الواقع ما سأقوله سيغضب البعض، ولكن هي الحقيقة بعينها، والتي لا يجب ألا نغض الطرف عنها، نحن عالة على المناهج والنظرية الغربية، فكل مشروعات البحث عن نظرية نقدية عربية باءت بالفشل، ومع الأسف يأتي تطبيق هذه المناهج بعدما تكون أَفِلَت وانزوى بريقها في بيئتها الأصليّة، والشيء المؤسف حقًّا أن البعض يتعامل مع استخدام المناهج الغربية وتطبيقها كنوع من الوجاهة الثقافية، بأنه مُطلع على النظرية الأدبية الغربية ومخرجاتها. ما يفعله نقادنا في ممارساتهم النقدية يأتي مخالفًا لما قاله «جاك دريدا» بأن «كل النصوص مختلفة، وينبغي عدم إخضاعها لذات المعيار وذات المقاس، ينبغي عدم قراءتها بالعين نفسه»، ووضع النصوص تحت مقياس منهج معين دون الأخذ مناسبته للنص أم لأ، فكانت النتيجة مؤسفة بأن تم تغريب النقد وانصرف القراء عن النقد والنصوص كذلك، وهو ما جعل الناقد البريطاني رونان ماكدونالد يعلن «موت الناقد»، في إشارة إلى الناقد الأكاديمي الذي انصرف عن الانغماس في قراءة النصوص ومحاولة تقريبها إلى برجه العاجي وصومعته حيث بحوثه العلميّة وترقيته.

• كتبت العديد من المقالات حول سؤال «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي»، نود إبراز الرؤى التى توصلت إليها؟

- أودّ التوضيح أن المقالات جاءت قراءة لما قدمه إيتالو كالفينو في كتابه «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي»، ثم بعد ذلك عبدالفتاح كيليطو في كتابه «في جو من الندم الفكري»، حيث قدّم هو الآخر رؤيته لمفهوم الأدب الكلاسيكي في مقالة داخل الكتاب حملت العنوان نفسه، وبالمثل عبرت الروائية جوخه الحارثي عن دوافع قراءة الأدب (ومن ضمنه الكلاسيكي) في مقالتها «لماذا نقرأ الأدب؟»، فقد اتفق الجميع على أهمية قراءة الأدب الكلاسيكي، وأن الحداثة لا تعني الانفصال عن التراث، وإن كان مفهوم الأدب الكلاسيكي في أحد مفاهيمه المتعدّدة يتصل بالكتب التي يعود إليها القارئ أكثر من مرة، فحسب تعريف كالفينو: «إن الكتاب الكلاسيكيّ هو الذي يعلن القارئ أنه يعيد قراءته، ولا يقول أبدا إنه يقرؤه»، وهي بالمناسبة كثيرة، قد تكون كلاسيكيّة بالمعنى المتعارف عليه كألف ليلة وليلة أو كليلة ودمنة، أو الأدويسة وأحيانًا تنتمي إلى كُتب حديثة ككتب طه حسين والمنفلوطي ونجيب محفوظ، والطيب صالح وعبد الرحمن منيف، وغيرهم، الشيء المهم الذي فطنت إليه فعلى الرغم من الصورة السلبية المأخوذة عن الشباب وقراءاتهم، إلا أن الواقع يقول إن الشباب يقرأون الكلاسيكيات ذات الأجزاء المتعددة في مفارقة تدعو للاندهاش، لما يتسم به الشباب طابع العجلة والسرعة، وحب الكتب القصيرة بعيدة عن الأجزاء، والأهم عدم رغبته في الكتب العميقة، وميله إلى الكتب السطحية، وكلها ادعاءات لا محل لها من الإعراب، ولا موقع لها في الواقع القرائي، فالشباب يقرأون كل ما تصل إليه أيديهم، وأيضًا يسألون ويبحثون عن المهم وذي الأولوية في القراءة، وهذا يقودنا إلى نفي الاتهام الرائج بأن العربي لا يقرأ إلا ربع صفحة في العام، في مقابل إن الأوروبي يقرأ ما يقارب 35 كتابًا في السنة (تقرير صادر عام 2013 عن اليونسكو)، وهناك تقرير آخر صادر عن مؤسسة الفكر العربي يقول إن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنويا، بينما يقرأ الأوروبي ما يوازي 200 ساعة سنويًّا، ومع الأسف وفق ملاحظاتي ومتابعاتي على موقع «جود ريدز وأبجد» وغيرهما من مدونات القراءة، فأستطيع أن أجزم أن هذه فكرة غير صحيحة ومبنية على معلومات خاطئة.

• ما الجديد لديك في عالم الإبداع؟

- لدى بحث أعكف عليه، متعلّق بطه حسين، ومن هنا أدعو إلى تكوين مركز بحثي باسم عميد الأدب العربي، يكون مهمته إعادة قراءة أعمال طه حسين، برؤيا جديدة ومن مناظير أجيال شابة.

back to top