ما مصير الروس الهاربين إلى كازاخستان؟

نشر في 04-11-2022
آخر تحديث 03-11-2022 | 19:30
نقطة حدودية بين كازاخستان وروسيا تُظهِر الروس الهاربين من التجنيد وفي الاطار قاسم جومارت توكاييف
نقطة حدودية بين كازاخستان وروسيا تُظهِر الروس الهاربين من التجنيد وفي الاطار قاسم جومارت توكاييف
أطلق الغزو الروسي لأوكرانيا هذه السنة موجات هجرة غير مسبوقة في أنحاء المساحات السوفياتية السابقة، فشهدت كازاخستان، التي تتقاسم أطول حدود متواصلة في العالم مع روسيا (7644 كيلومتراً)، تدفقاً للمهاجرين منذ بدء الحرب، ثم جاءت التعبئة العسكرية «الجزئية» التي أعلنتها موسكو في الفترة الأخيرة لتزيد الوضع تعقيداً، فبدأ عدد هائل من المهاجرين الروس يتّجه إلى آسيا الوسطى، وطرحت هذه الزيادة الحادة في عدد الوافدين الروس إلى كازاخستان أسئلة عدة عن مكانتهم في المجتمع الكازاخستاني، وتأثيرهم على الاقتصاد، والسياسة، ومستقبل البلد عموماً.في 21 سبتمبر الماضي، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «تعبئة عسكرية جزئية»، فنشر الذعر وسط بعض المواطنين الروس، لا سيما الشبان الذين تستهدفهم التعبئة قبل غيرهم، فقرر الكثيرون الهرب خلال ساعات قليلة، واختاروا قطع الحدود الدولية التي يسهل اختراقها في أسرع وقت، وكانت جورجيا وكازاخستان، اللتان تتقاسمان حدوداً مفتوحة نسبياً مع روسيا، من أولى الوجهات التي قصدها جزء كبير من الهاربين، فوفق بعض الإحصاءات، دخل نحو 80 ألف روسي إلى جورجيا، وقطع 300 ألف شخص الحدود نحو كازاخستان على مر أسبوعَين بعد إعلان التعبئة، لكن بسبب الزحمة المفرطة في الطائرات والقطارات، اضطر الكثيرون لإيجاد طرق أخرى لمغادرة روسيا بالسيارات أو سيراً على الأقدام، فتوسّعت مظاهر الاكتظاظ والفوضى على الحدود البرية بين البلدين خلال الأسبوع الأول، وفي غضون ذلك، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مئات الفيديوهات التي تعكس مستوى اليأس والارتباك في نقطة التفتيش الحدودية بين كازاخستان وروسيا، واستقبلت مناطق أورالسك، وبيتروبافلوفسك، وأستانا، وألماتي، أكبر عدد من المهاجرين. تقع أول مدينتَين بالقرب من الحدود مع روسيا، أما أستانا فهي عاصمة كازاخستان، وتُعتبر ألماتي أكبر مدينة فيها.

يوضح الصحافي الكازاخستاني المقيم في أورالسك، لوكبان أخميدياروف، أن معظم المهاجرين كانوا من الرجال وتتراوح أعمارهم بين 18 و28 عاماً. تتألف فئة أساسية أخرى من رجال في عمر الثلاثينيات، ويتراجع في المقابل عدد المهاجرين الرجال في عمر الأربعين وما فوق، قد تتألف أحدث موجة هجرة في معظمها من الرجال، لكن جَلَب البعض عائلته كلها معه، ويذكر أخميدياروف أن معظم المهاجرين يحملون مهارات عالية ويعملون في قطاع تكنولوجيا المعلومات، وتتألف ثاني أكبر فئة من المهاجرين من أشخاصٍ ينتمون إلى المجال الفني (موسيقيين، رسامين، نحاتين، أصحاب مدونات...). أما الفئة الثالثة، فهي تُعتبر أساسية لمتابعة جهود الحرب الروسية، وتتألف من العاملين في القطاع الطبي، وتشمل أطباءً عاديين وخبراء طب ذات مهارات عالية. يقول أخميدياروف أن أصغر مجموعة من الوافدين تتألف من مهنيين ذات مهارات محدودة، ولوحظ هذا التفاوت في الأعمار والمِهَن في مناطق أخرى من كازاخستان، وهو يشير عموماً إلى أكثر المجموعات الروسية تنقلاً، أي الفئات التي تستطيع تحمّل كلفة مغادرة البلد.

في بيان صادر في 27 أكتوبر، ذكر وزير التنمية الرقمية الكازاخستاني، أسيت توريسوف، أن البلد تلقى نحو 200 ألف طلب منذ بداية التعبئة الروسية للحصول على رقم تعريف فردي في كازاخستان، هو لم يحدد عدد الطلبات التي قدّمها المهاجرون من روسيا، بل أعلن أن هذه الأرقام تغطّي جميع الأجانبـ، لكن عند مراجعة التواريخ والأعداد غير المألوفة، يسهل أن نستنتج أن معظم مقدّمي الطلبات، أو حتى جميعهم، يأتون من روسيا.

أول ما يفعله الوافدون الروس هو الحصول على رقم تعريف فردي لأنه عامل ضروري للعمل في كازاخستان، ولتلقي رقم هاتف، وفتح حساب مصرفي في البلد، لكن ما من تقديرات واضحة حتى الآن حول عدد الروس الوافدين إلى كازاخستان منذ بداية التعبئة أو من اختاروا البقاء هناك، إذ تختلف الأرقام المتداولة، فقد كانت تنقلات الأفراد مكثفة لدرجة أن تزيد صعوبة تقييم عدد الروس المتبقين في كازاخستان بعد مرور أسابيع على إعلان التعبئة. هذا الارتباك يُصعّب على حكومة كازاخستان التوصل إلى استراتيجية متماسكة لضمان التكامل الاقتصادي والاجتماعي للروس، وتقييم المخاطر السياسية والأمنية في ظل المناخ الجيوسياسي المضطرب راهناً.

كانت حركة الروس بعد إعلان التعبئة فوضوية وعشوائية، وقد حصلت في معظمها وسط أجواء من الصدمة والاستعجال، واختار الكثيرون المجيء إلى كازاخستان لأنه أسهل خيار أمامهم، إذا يقع البلد على مسافة قريبة وتُعتبر قوانين قطع الحدود باتجاهه بسيطة نسبياً، لكن لا يعني ذلك بالضرورة أن الروس الهاربين يخططون للبقاء في كازاخستان أو الاستقرار فيه لفترة طويلة، بل يتخذ الكثيرون قراراتهم بحسب الظروف المحيطة بهم على ما يبدو، فيختارون التوجه إلى بلدٍ يؤمّن لهم مكان إقامة.



تكشف التقارير الرسمية أن عدد الوافدين الروس تباطأ في الفترة الأخيرة وأن الأرقام العامة عادت إلى مستوياتها السابقة. بدأ عدد متزايد يغادر كازاخستان الآن (بين 10 و11 ألف شخص يومياً)، مقابل تراجع عدد الوافدين (بين 8 و9 آلاف يومياً). استناداً إلى مقابلات عدة مع الروس الهاربين، من الواضح أن جزءاً كبيراً منهم يعتبر كازاخستان أول محطة من رحلة طويلة نحو بلدان مثل جورجيا، وتركيا، وأماكن أخرى من آسيا الوسطى، أو وجهات أبعد في أوروبا. يتعلق السبب بخوف الكثيرين من احتمال أن يتفاوض بوتين مع رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف وينجح في إعادتهم، لكن يفكّر آخرون ببناء حياة جديدة في كازاخستان، وتبذل الشركات الخاصة جهوداً كبرى لجذب المحترفين من أصحاب المهارات العالية، وفي الوقت نفسه، بدأت السلطات الكازاخستانية تُحضّر مسودة قانون للسماح لمن يستثمر أكثر من 300 ألف دولار في اقتصاد كازاخستان بالحصول على تأشيرة مدتها 10 سنوات.

يُعتبر شيوع اللغة الروسية والسياق الاجتماعي المتشابه بين البلدين من العوامل التي تدفع بعض الروس إلى التفكير بالبقاء في كازاخستان على المدى الطويل، لكن يتعلق عامل مفاجئ آخر بالترحيب الإيجابي الذي أبدته الحكومة الكازاخستانية وعامة الناس تجاه المهاجرين الروس، علماً أن عدداً كبيراً منهم لم يسبق أن زار البلد ولا يعرف معلومات كثيرة عنه، وتعليقاً على موجة الهجرة المفاجئة، قال توكاييف: «في الأيام الأخيرة، بدأ عدد كبير من الروس يصل إلى بلدنا، واضطر معظمهم للرحيل بسبب الوضع البائس راهناً. يجب أن نعتني بهم ونضمن سلامتهم، إنها قضية سياسية وإنسانية».

تبذل الحكومة جهوداً مكثفة لمعالجة الأزمة وتسعى إلى تسهيل وصول المهاجرين، فقد سارع متطوعون إلى تنظيم صفوفهم لتأمين أماكن إقامة في الشركات الخاصة، وتوزيع المواد الغذائية، وتقاسم وسائل النقل مجاناً، فقد ينسب البعض هذا التعامل إلى طبيعة الشعب الكازاخستاني المعروف بحُسن الضيافة واستعداده تاريخياً لمساعدة «المجموعات غير المرغوب فيها سياسياً» في النظام الروسي، أو من يتعرضون للقمع ويتم نَفْيهم خارج الحكومة المركزية، لكن يشعر الكثيرون بالارتباك والاستياء من هذا الترحيب المفرط في الظروف الراهنة، على اعتبار أن هؤلاء الأشخاص اضطروا على الأرجح لمغادرة بلدهم لكن لا يمكن مساواتهم بالأوكرانيين الهاربين من الحرب، ويُفترض ألا يستفيدوا من هذه الجهود المكثفة التي تهدف إلى مساعدتهم. كذلك، يشكك الكثيرون بالآراء السياسية للوافدين الروس ويتساءلون عن نزعتهم إلى دعم أجندة بوتين الإمبريالية ورؤيته العالمية.

سبق أن شهدت منطقة آسيا الوسطى والقوقاز تدفقاً غير مسبوق للمهاجرين الروس، ففي بداية التسعينيات، بدأ الروس العرقيون يغادرون بلداناً مثل كازاخستان، وساهمت هجرتهم إلى روسيا في إنشاء الظروف المناسبة لنيل الجنسية في الجمهوريات السوفياتية السابقة، مما سمح لهم بترسيخ هوياتهم العرقية وإعادة اكتشافها وحُكْم أنفسهم، لكن بدأت موجة الهجرة الراهنة تتخذ وجهة مختلفة مجدداً، ففي كازاخستان وحدها، تراجعت نسبة الروس العرقيين من 37% عام 1991 إلى 18% في عام 2020، فمن مسؤولية الحكومات والسكان المحليين الآن أن يستقبلوا المهاجرين ويدمجوهم في المجتمع، ومن واجب المهاجرين أن يبدوا استعدادهم للاندماج في محيطهم الجديد، ومن مسؤولية روسيا طبعاً أن تسمح لهم بالرحيل وتمتنع عن استغلال هذه الجماعات الجديدة من المغتربين الروس بطريقة مدمّرة مستقبلاً.

من مسؤولية الحكومات والسكان المحليين الآن أن يستقبلوا المهاجرين الروس ويدمجوهم في المجتمع، ومن واجب المهاجرين أن يبدوا استعدادهم للاندماج في محيطهم الجديد، ومن مسؤولية روسيا طبعاً أن تسمح لهم بالرحيل وتمتنع عن استغلال هذه الجماعات الجديدة من المغتربين الروس بطريقة مدمّرة مستقبلاً.

* علياء عسكر

back to top