الترسيم الحدودي المحتفى به على عشاء سويسري

نشر في 01-11-2022
آخر تحديث 31-10-2022 | 19:10
هل تعني سرعة الاتفاق أن الكيان الإسرائيلي أصبح ضعيفاً لدرجة الرعب الجدّي من مسيّرات «حزب الله» ومنظومة صواريخه الدقيقة وضفادعه البشرية؟ أم أن الاستراتيجية الصهيونية تجرّ لبنان إلى تطبيع غير معلن واستقرار حدودي يستفيد منه العدو في كل الميادين التنموية، متيقناً من أن استفادة لبنان من غازه ستكون محدودة وربما منعدمة في ظل استمرار القابضين على السلطة؟
 د. بلال عقل الصنديد بتاريخ 22/ 10/ 2022 تناقلت وكالات الأنباء تصريحاً لوزير الخارجية الإيراني «عبداللهيان» مفاده تلقي «طهران» رسالة من الولايات المتحدة الأميركية تعبّر عن «استعجالها للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران»، الأمر الذي نفاه لقناة «الحرّة» متحدث من وزارة الخارجية الأميركية معقباً «أن رسالتنا الوحيدة هي أوقفوا قتل شعبكم وأوقفوا إرسال أسلحة إلى روسيا»!

سواء أصحّ الخبر أم صحّ نفيه، فإن الاتفاق النووي الإيراني ما زال ورقة لعب مهمّة في ميدان السياسات الدولية التي تعقّدت مساراتها بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا والمواجهة المباشرة بين «بوتين» والغرب الذي أصبح فجأة في أمس الحاجة للنفط والغاز، مما يضع مجدداً منطقتنا- ولبنان تحديداً- في مهبّ اختلال ميزان الصراعات الكبرى.

وبما أن «المحلّي بالدّولي يُذكر!»، ليس خافياً على أحد ما تطلبته محاولات التوصل الى ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الإسرائيلي من جهود مضنية امتدت لأكثر من عشر سنوات، حسب ما كشف عنه رئيس مجلس النواب «نبيه برّي» عندما أعلن بتاريخ 1/ 10/ 2020 النجاح في الوصول الى «اتفاق إطار» بين البلدين العدوّين، أشرف شخصياً- بإرادة سياسية دون أي صلاحية دستورية- على متابعته والانخراط في كواليسه الى أبعد الحدود.

يدّلل طول المدّة وما بذل من جهد على مشقّة التفاهم وصعوبة التفاوض مع كيان غاصب يستهويه الطمع بكل ما ليس من حقه ويحترف المماطلة قبل أن يتورط بأي تنازل عن القليل مما لا يملكه أصلاً! ورغم هذه الحقيقة الثابتة، مرّ الاتفاق النهائي على الترسيم الحدودي البحري بهدوء أكثر من المعتاد وبسلاسة أطرى من المتوقع، لدرجة أن الشعب اللبناني كان قبل سياسييه شبه مقتنع ومتأكد من الوصول الى اتفاق سريع يعزوه السبب المعلن الى تداعيات أزمة الغاز الأوروبية المستجدّة، في حين على المستوى المحلّي يربط التعجيل في إنجازه بالسقف العالي لخطاب أمين عام «حزب الله» الذي سبق أن توقّعت في مقال نشرته بتاريخ 19/ 7/ 2022 أنه أنهى الحرب قبل اندلاعها.

لا يمكن لعاقل أن يبعد ما حدث في لبنان عن الشدّ والجذب الذي يشهده الملف النووي الإيراني-الغربي

فهل تعني سرعة الاتفاق أن الكيان الإسرائيلي أصبح ضعيفاً لدرجة الرعب الجدّي من مسيّرات «حزب الله» ومنظومة صواريخه الدقيقة وضفادعه البشرية؟ أم أن الاستراتيجية الصهيونية- بعيدة المدى- تجرّ لبنان بثلاثيته الشهيرة- شعب وجيش ومقاومة- الى تطبيع غير معلن والى استقرار حدودي يستفيد منه العدو في كل الميادين التنموية، متيقناً من أن استفادة لبنان من غازه ستكون محدودة وربما منعدمة في ظل استمرار القابضين على السلطة والإدارة في نهجهم القائم على الفساد والمحسوبية والنكايات والطائفية!؟

مهما تعددت القناعات أو اختلفت وجهة الإجابات عمّا يطرح من استفهامات تلقائية بشأن هذا الحدث المهّم والمصيري، يبقى السؤال المحوري مطروحاً عن سبب الحماسة الأميركية والجهد الملحوظ الذي بذله القابض على هذا الملف، الأميركي من أصل يهودي «عاموس هوكشتاين» الذي صار رائجاً أنه خدم في الجيش الإسرائيلي من عام 1992 حتى 1995! فهل تريد أميركا بالفعل تلبية سريعة للحاجة الأوروبية الملحّة بما يتيسر من غاز بحر فلسطين المحتلة، رغم أنه في أحسن التقديرات لن يغطّي أكثر من 10% من احتياجات القارة العجوز؟ أم أن الأكمة الدبلوماسية والنظرة الإستراتيجية تخفي ما تخفيه خلفها؟

لا يمكن لعاقل أن يبعد ما حدث في لبنان عن الشدّ والجذب الذي يشهده الملف النووي الإيراني-الغربي، وعمّا يخطط للمنطقة في العقود القادمة، وبخاصة إذا ما انتهت الحرب الروسية-الأوكرانية الى ما يشتهيه الغرب ولم يخرج «الدب الروسي» الى الميدان بمفاجآت من العيار الثقيل قد تغير المعادلة في العالم بأسره.



هناك من يقول إن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة تستهدف تكريس «الهلال الشيعي» على أرض الواقع، وقد مهّد لذلك الإعلام والمرتمون بأحضان «العمّ سام» منذ سنوات، وخلاصة هذا التوجّه تسليم إيران وأنصارها في دول «الهلال» مقود التحكم في إدارة شؤون البلاد والعباد تحت سقف معروف وهو عدم الإضرار الجدّي بالمصالح الإسرائيلية ومن ثم الغربية، ومن هذا المنطلق يفسّر أصحاب هذا الرأي ما جرى ويجري في لبنان من استخدام «حزب الله» لأوراق حرب يوليو 2006، ونجاحه في دعم وإنقاذ النظام السوري منذ عام 2012، وانتصاره المعنوي الكبير في تحقيق الترسيم الحدوي البحري، مما كرّس وجوده وعززّ دوره كلاعب رئيس في بلاد الأرز وكعنصر مؤثر وفاعل في المنطقة.

وبالمنطق نفسه يربط المعارضون لسياسات إيران في المنطقة ولبنان بين مجريات عهد «ميشال عون» المدعوم من «محور المقاومة» والفراغ الذي سبقه وسيعقبه من جهة، وبين المصير الغامض لدستور «الطائف» المرتبط تلقائياً «بالحريرية السياسية» المبعدة قسراً عن المشهد، من جهة أخرى!

وفي السياق تقول الإعلامية «سحر الخطيب»- معروفة القناعات وواضحة التصريح والعبارات- إن الدعوة التي وجّهتها السفارة السويسرية الى عشاء يجمع الفرقاء اللبنانيين بغرض التداول في الشأن المحلي «تحت سقف الطائف»، تشبه إلى حد ما مجريات فيلم «موعد على العشاء» المنتج عام 1981، حيث قامت البطلة نوال «سعاد حسني» بدعوة البطل عزّت «حسين فهمي» الى عشاء يحبّه؛ فكان ذلك العشاء الأخير لكليهما، حيث قامت البطلة بوضع السمّ في الأطباق الشهية حتى تنتهي من كل شيء!

وقد ذهبت صاحبة المقاربة بعيداً باستذكارها أن الدولة السويسرية مثّلت المصالح الأميركية في ايران كنتيجة مباشرة لانقطاع العلاقة الدبلوماسية بين البلدين نتيجة «أزمة الرهائن» عام 1979، بينما مثّلت المصالح الإيرانية لسنوات عديدة في مصر على إثر قيام ايران بتسمية أحد شوارعها على اسم «خالد الاسلامبولي» الذي اغتال الرئيس «أنور السادات» عام 1981. ناهيك عن أن «بيرن» حافظت على علاقات تجارية مع «طهران» رغم العقوبات الأميركية المفروضة علنياً على الجمهورية الإيرانية الإسلامية.

وقد خلص هذا الاستذكار التحليلي الى الاستنتاج أن دعوة السفارة السويسرية لعشاء المداولة «تحت سقف الطائف» سيكون «العشاء الأخير للطائف»، وأنه سبقها وسيليها تنسيق مطلق بين «بيرن» و«طهران» و«واشنطن»، مما يطرح الخشية من أن الخارج- بمصالحه المتقاطعة أو المتعارضة- قد يحضّر الطبق الشهي في حين أن اللبنانيين «يأكلون أنفسهم قبل العشاء».

ولعلّ هذا المنطق الممهور بالخشية هو الذي حرّك الاعتراضات على العشاء السويسري ومساعي إلغائه في ظل ما يدور في الكواليس للمّ الشمل اللبناني تحت مظلّة إقليمية، وفي ظل ما سرّب عن تحضيرات تقوم بها السفارة السعودية في لبنان لعقد مؤتمر في قصر «الأونيسكو» في ذكرى توقيع وثيقة الوفاق الوطني التي وقّعت فس «الطائف» قبل ٣٣ عاماً.

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top