تجديد الفكر القانوني

نشر في 03-05-2023
آخر تحديث 02-05-2023 | 19:09
إن التفاعل الحضاري المشكّل والمطوّر للفكر القانوني يتحقق من خلال دراسة التجارب المقارنة وتوسيع مروحة الترجمة القانونية، إذ يسهم الاطلاع على النتاج الفقهي والقضائي للشعوب والمجتمعات الأخرى بفتح آفاق جديدة أمام القانونيين، مما لا يقع بشكل عام في المجال التقليدي لمنظورهم الفكري، ولا يصادفهم عادة في عملهم اليومي.
 د. بلال عقل الصنديد

في ندوة نظّمها مركز الكويت للتحكيم التجاري في غرفة تجارة وصناعة الكويت بعنوان المقال نفسه، تحدّث الدكتور فهد الزميع مستعرضاً تاريخ الفكر القانوني المشرقي منذ نهايات السلطنة العثمانية الى عصرنا الحالي، مروراً بما قد يسمى عصر النهضة في الفكر القانوني العربي الذي من أبرز رموزه العلّامة عبد الرزاق السنهوري المولود عام 1895.

وبعد أن نجح المحاضر بهزّ مشاعرنا القومية تأثراً بما آل إليه الفكر القانوني العربي انحداراً من الإبداع والاستحداث إلى النقل والاستنساخ، وبعد أن نفّذ مخططه- الذي صرّح به- باستفزاز عقولنا وتحريك سبات هممنا، تولّدت فكرة هذا المقال.

ففي عالم مليء بالتطورات المتسارعة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، يواجه الفكر القانوني المعاصر- ولاسيما العربي- جملة من التحديات التي تتطلب التكيف معها وتغييراً ملموساً في أساليب مقاربتها والتعامل معها، نكتفي بذكر الشيء اليسير منها.

فمع التغيرات الاجتماعية والثقافية الجذرية التي فرضها عصر العولمة، برزت إلى الواجهة القانونية في العالم عناوين جديدة ترتبط بحقوق الأقليات والجماعات العرقية والدينية والجنسية، فضلاً عن القضايا التي ترتبط بالتنوع الثقافي وحرية التعبير والتواصل، وهذا ما جعل العمل القانوني محكوماً ببعض القيود المفروضة من الهيئات والمؤسسات الأممية وبعض المنظمات الحقوقية المتماهية مع الإعلام الموجّه. وبالطبع تضاعفت تعقيدات هذا الأمر في الدول والمجتمعات التقليدية والمحافظة على قيمها وإرثها الديني والثقافي، كمجتمعاتنا العربية والإسلامية، مما يضع الفكر القانوني العربي أمام تحديات المواءمة والموازنة بين الثوابت والأفكار المستوردة من جهة، وتلك المفروضة من جهة أخرى.

من جانب آخر، وفي تفاعل حتمي مع التطور التكنولوجي، يواجه الفكر القانوني المعاصر تحديات جديدة في التعامل مع قضايا الخصوصية والأمان الإلكتروني والتحولات الاقتصادية الرقمية المتسارعة والتي ترتبط بالعولمة والتجارة الحرة وتطور الشركات العابرة للحدود، ناهيك عن قضايا الحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة.

***

إن التحديات التي تواجه الفكر القانوني- ولاسيما العربي- تتطلب من المؤسسات القانونية والمحامين والقضاة والباحثين في القانون تجديد الفكر القانوني في مقاربة التحولات الجديدة، مما يشكل فرصة مناسبة ومتاحة للمزيد من الابتكار والتطور في مسار تحقيق العدالة والاستناد الى القانون.

فالعصر قادم على مزيد من استخدامات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لتسهيل الوصول الى المعلومة وتحليل البيانات القانونية وتسريع وتطوير عمليات صنع القرار القضائي، كما لم يعد هناك مفر من تفاعل نظام التعليم القانوني مع التفاعلات والتحديات الراهنة والمستقبلية، فضلاً عن حتمية تعزيز الثقافة القانونية والمواطنة النشطة والتشاركية لتحسين الوعي القانوني والمساهمة في بناء مجتمع عادل ومتساوي الفرص. دون أن ننسى أو نتناسى دور التعاون الدولي والإقليمي في مجال تجديد الفكر القانوني وتبادل الخبرات والمعرفة والتقنيات، وهذا ما يقود الى الإضاءة على ثلاثة محاور رئيسة تدور حولها نجاحات الفكر القانوني وإخفاقاته، وهي: الرعاية المؤسساتية، التأهيل الأكاديمي، التفاعل الحضاري.

فانطلاقاً من تعريف العلّامة الغربي مونتسكيو للقانون على أنه الناظم للعلاقات الضرورية المستمدة من طبيعة الأشياء وهو عصب الحياة العامة، بما يشمل ترتيب علاقات الأفراد والجماعات بعضها ببعض، فإن للدولة الراعية بسلطاتها الدستورية ومؤسساتها التنفيذية ومحاكمها القضائية دوراً بارزاً وجوهرياً في تشكيل الفكر القانوني ورعاية حسن تطبيق مخرجاته في المجتمع الذي يعتبر واقع الحال فيه انعكاساً طبيعياً وأميناً للقانون فكراً وصياغة وتطبيقاً، والعكس بالعكس، فكم هو مفيد ومصيري أن تكون ولادة النصوص القانونية نتيجة خلطة سحرية يشترك في تكوينها عدة عناصر من أبرزها: سياسة تشريعية متكاملة ومتماسكة، فكر قانوني منتج ومؤثر، مهارة واحتراف في الصياغة، ربط المخرجات القانونية بدراسة جدوى متعددة الأبعاد، وكم هو ضروري ومهم اعتماد منهج ثابت ومؤسساتي للمراجعة الدورية لما أقر من نصوص بهدف إكمال نواقصها أو تعديل مثالبها أو إلغائها جزئياً أو كلياً وفقاً لمتطلبات التطبيق ومستجدات الواقع.

ينجذب الضوء من جانب آخر الى ركيزة الركائز في تشكيل الفكر القانوني، والمقصود بذلك الكليات والمعاهد المختصة بتدريس القانون وعلومه، وبالتالي تشكيل الفكر والوعي القانونيين لدى مرتاديها. وأستذكر في هذا الشأن ما كتبته الرؤيوية الدكتورة مشاعل الهاجري في بحثها المعنون «منهج بيداغوجي مقترح لتدريس القانون في كليات الحقوق العربية، الفلسفة والتطبيق» حيث تناولت الركائز الأربعة لتدريس القانون المتمثلة بالمنهـج السقراطـي:

أولاً، القانـون المقـارَن.

ثانياً، الدراسـات البينيّـة.

ثالثاً، خدمـة المجتمـع.

رابعاً، ترجيح أفضلية الطريقة السلوكية للتدريس، التي توازن في تشكيل الفكر القانوني لدى الطالب بين دوره وسلوكه والظروف التي يتعلّم فيها من جهة، وواجب الأستاذ بعدم نزول إلى المستوى البسيط لطلبته، وإنما شدّهم إليه لينقلهم إلى مستواه الفكري الأعلى.

تبقى الإشارة الى أن التفاعل الحضاري المشكّل والمطوّر للفكر القانوني يتحقق من خلال دراسة التجارب المقارنة وتوسيع مروحة الترجمة القانونية، إذ يساهم الاطلاع على النتاج الفقهي والقضائي للشعوب والمجتمعات الأخرى بفتح آفاق جديدة أمام القانونيين مما لا يقع بشكل عام في المجال التقليدي لمنظورهم الفكري ولا يصادفهم عادة في عملهم اليومي.

وهذا لا يعني التعامل مع الأمر بدونية فكرية، وليس بالطبع بفوقية انتمائية، بل بقناعة تامة أن البنيان الحضاري لا يتكون إلا بتفاعل ثقافات مختلفة وتمازج آراء متعددة وتحاور عقول قد تكون متناقضة الاتجاهات.

و الفكر العربي- بما فيه الفكر القانوني- هو بأمس الحاجة الى رفده بمعارف وتجارب أخرى سبق أن نجح أركانها وروادها في تطويرها وتحديثها وجعلها أكثر مواكبة للعصر ومتطلبات التعامل مع أجياله.

* كاتب ومستشار قانوني

back to top