أهمية وجود سلطة دستورية عليا

نشر في 17-04-2023
آخر تحديث 16-04-2023 | 17:39
 د. محمد أمين الميداني

بقيت الأحزاب والنقابات والشعب الفرنسي، وعلى مدى عدة أيام، بانتظار قرار المجلس الدستوري في فرنسا بخصوص دستورية قانون التقاعد الذي نجحت الحكومة الفرنسية برئاسة إليزابيت بورن بتمريره في الجمعية الوطنية الفرنسية وقبل ثلاثة أسابيع بفضل المادة (43.9) من الدستور الفرنسي، وتسمح هذه المادة للحكومة بطرح التصويت على الثقة بها إذا أرادت تمرير مشروع قانون من دون أن يصوت عليه نواب الشعب في هذه الجمعية، وإذا لم يتم التصويت على سحب الثقة من الحكومة فيعتبر مشروع القانون معتمداً من قبل الجمعية، وهذا ما حدث، فقد تم التصويت تبعاً لهذه المادة، ولكن لم يتم سحب الثقة من الحكومة مما جعل المشروع معتمداً من قبل الجمعية الوطنية.

وبادرت رئيسة الوزراء بعد أن كسبت الثقة، وتجاه الانتقادات العديدة والمتنوعة التي وجهت لها ولحكومتها بسبب هذا القانون ومختلف جوانبه ومن بينها رفع سن التقاعد من 42 إلى 44 عاماً، علماً بأن العمر المتوسط للتقاعد في الاتحاد الأوروبي هو 63.5 للنساء، و64.3 للرجال، إلى عرضه على المجلس الدستوري، وجاءت هذه المبادرة من السيدة بورن تبعاً لما دار في جلسات الجمعية الوطنية من مناقشات واعتراضات وجدال وصراخ وتعليق لبعض الجلسات، وسعيا منها لاحترام الحياة الديموقراطية وتفعيل مؤسساتها وفي مقدمتها المجلس الدستوري، كما أنها التقت برؤساء مختلف النقابات للنقاش وتبادل الآراء حول هذا القانون ولكن بقي كل طرف على مواقفه، فالحكومة لا تريد معاودة مناقشة مضمون القانون، والنقابات رافضة له جملة وتفصيلا.

ولا بد من أن نوضح هنا دور هذا المجلس الدستوري وتأليفه، فهو يضم تسعة أعضاء يختار رئيس الجمهورية ثلاثة منهم، ورئيس الجمعية الوطنية ثلاثة، ورئيس مجلس الشيوخ آخر ثلاثة، حيث يتكون الجهاز التشريعي في فرنسا من هيئتين: الجمعية العمومية، ومجلس الشيوخ. ونرى بذلك أنه تم تحقيق نوع من التوازن بين الجهاز التنفيذي، والأجهزة التشريعية التي تمثل الشعب في عملية الاختيار. ونجد من بين الأعضاء الحاليين لوران فابيوس رئيس وزراء سابق وكان ذلك بين عامي (1984-1986) أيام الرئيس الراحل فرانسوا ميتران واعتبر وقتها أصغر رئيس وزراء عرفته فرنسا، وكان رئيسا للجمعية الوطنية بين أعوام (1997-2000)، وكان أيضاً وزيراً في عدة وزارات، ونجد أيضاً من بين الأعضاء الحاليين (آلان جوبيه) الذي كان رئيس وزراء (1995-1997) أيام الرئيس جاك شيراك، ووزيراً للخارجية، ووزيراً في عدة وزارات، كما يضم المجلس حالياً ثلاث سيدات من بين أعضائه، ويختار رئيس الجمهورية الفرنسية رئيس المجلس من بين أعضائه والرئيس الحالي لوران فابوس، كما يمكن لرؤساء الجمهورية السابقين أن يشاركوا في جلسات المجلس.

عرفت العديد من المدن الفرنسية وبخاصة العاصمة باريس، وقبل عرض مشروع القانون في الجمعية الوطنية وبعد عرضه وفي مراحل مناقشته، وحتى قبل يوم واحد من الموعد المرتقب لصدور قرار المجلس الدستوري، إضرابات ومظاهرات وأعمال شغب وتحطيم لواجهات المحال، وحرق للسيارات وعلب القمامة، ورافق ذلك اعتقالات كثيرة ومداهمات للتجمعات والحشود من قبل الشرطة والدرك، ونقلت محطات التلفزة الأوروبية والأميركية والآسيوية مشاهد كثيرة من هذه الأعمال والاضرابات والمظاهرات والتي بدت للعديد من متابعي هذه المحطات غير مفهومة ومستغربة أيضا.

وصدر أخيراً قرار المجلس الدستوري في الرابع عشر من شهر أبريل، وأهم ما جاء فيه هو الموافقة على المادة السابعة في مشروع القانون والتي سببت الاحتجاجات والاعتراضات والمظاهرات طوال عدة أشهر والمتعلقة برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، لكن رفض المجلس تنظيم استفتاء شعبي بقصد إقرار الإصلاحات وعدد من الجوانب غير الأساسية في المشروع، وجاء رد الفعل مباشرة بعد صدور القرار حيث دعت الأحزاب والنقابات إلى مظاهرات حاشدة في الأول من شهر مايو المقبل. لم ينتظر رئيس الجمهورية طويلاً، بل سارع عشية صدور قرار المجلس الدستوري، ومن دون أن يأخذ بعين الاعتبار تصريحات مسؤولي الأحزاب والنقابات المنتقدة للقرار، بالتوقيع على مشروع القانون الجديد للتعاقد في فرنسا مما سيجعله ساري المفعول اعتباراً من شهر سبتمبر القادم.

يبقى وجود سلطة دستورية عليا، باختلاف تسميتها وتكوينها ومهامها، يُحتكم إليها فيما يُعتمد من قوانين صمام أمان وحاجز رادع لتجاوزات السلطة التنفيذية إذا أردنا أن نتحدث بالفعل عن حياة سياسية ديموقراطية.

* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.

back to top