«البارومتر» ومناهج التعليم في عصر العولمة

نشر في 10-04-2023
آخر تحديث 09-04-2023 | 17:59
 د. بلال عقل الصنديد

يروى أنه في إحدى الجامعات الغربية العريقة طرح في اختبار مادة الفيزياء سؤال عن كيفية تحديد ارتفاع ناطحة سحاب باستخدام جهاز قياس الضغط الجوي «البارومتر»؟ وقد أجاب أحد الطلاب عن السؤال المطروح بأنه «يمكن ذلك من خلال ربط البارومتر بحبل طويل يتدلى من أعلى ناطحة السحاب حتى يمس الأرض، فيكون طول البنيان مطابقاً لطول الحبل»، وقد استفزّت هذه الإجابة المصحّح وقرر ترسيب صاحبها الذي تظلّم أمام الجهة المختصة مصرّحاً أمامها بأن لديه إجابات كثيرة على السؤال وقد احتار في الاختيار بينها!

وتعددت إجابات الطالب على النحو التالي:

• باستخدام قانون الجاذبية الأرضية، إذ يمكن إلقاء البارومتر من أعلى ناطحة السحاب على الأرض، وباستخدام المعادلة ذات الصلة يتم معرفة الارتفاع من خلال قياس زمن وصول البارومتر إلى الأرض.

• وإذا كانت الشمس مشرقة، يمكن قياس طول ظل البارومتر وطول ظل ناطحة السحاب، فنعرف الإجابة من خلال قانون التناسب بين الطولين وبين الظلين.

• الحل السريع الذي يريح العقول، هو أن يتم منح البارموتر الحديث والثمين لحارس ناطحة السحاب كهدية لقاء الإفادة بالمعلومة الصحيحة عن ارتفاع البنيان!

• وبإجابة معقّدة، يكون ذلك «بقياس الفارق بين الضغط الجوي على سطح الأرض وعلى سطح ناطحة السحاب».

وكانت جهة التظلّم تنتظر الإجابة الأخيرة التي من شأنها أن تدلل على فهم الطالب لمادة الفيزياء، في حين اعتبرها الطالب أسوأ الإجابات!

بقي أن نقول إن اسم هذا الطالب هو الدنماركي «نيلز هنريك دافيد بور» الذي أصبح فيما بعد دكتوراً عالماً في مادة الفيزياء وحائزاً جائزة «نوبل» فيها.

***

في هذه المرويّة المرجح صحتها ما يثير الشجون والتساؤلات حول المناهج التلقينية المعتمدة في التعليم المدرسي والدراسة الجامعية في وطننا العربي المتراجع في ركب الإنجاز الحضاري، فالواقع أن للتربية والتعليم أدواتهما المرنة والمتطورة التي يقتضي أن تحترم عقول الطلاب وتأخذ بالاعتبار اختلاف مقدراتهم الفكرية وتنوع اهتماماتهم الشخصية، فإذا كان معروفاً أن الإنسان هو هدف التنمية وأداتها، فإن التعليم هو أحد أهم ركائز الحضارة البشرية وهو الناقل الأسرع والأضمن للمجتمعات من قعر الجهل الى قمة الإشعاع، ومن حيث إن السمة الأبرز لعصرنا الحالي هي التطور المعرفي والتقدم التكنولوجي، بما يشمل الرقمنة والذكاء الاصطناعي والأسلوب التجريبي والتطبيقي في العلوم، لا بد للقائمين على وضع المناهج التي تؤسس الأجيال القادمة تجاوز العهد القديم من التعليم التلقيني والارتقاء به إلى التعليم الابتكاري والإبداعي الذي يواكب المستجدات العصرية ويلبي احتياجات سوق العمل، ونستطيع أن ننافس من خلاله إنجازات الشعوب الأكثر تطوراً.

التشكيل البنيوي والشحن الفكري لطلابنا، يجب أن يأخذ بالاعتبار دورهم في تطوير حاضر مجتمعاتنا وبناء طموحات غدنا، وهذا ما يعني احترام موروثاتنا الحضارية والدينية والمجتمعية ومحاولة مواءمتها مع طرق التفكير الحديثة وتعشيقها بسمات العصر الذي يتصف بسرعة انتقال المعلومة، وتأثيرات التكنولوجيا في تكوين وتبديل الثقافات الجماعية، بما يشمل كل النشاطات الصفية واللاصفية التي تهدف إلى إكساب الطالب الخبرات التربوية وتحقق الأهداف المنشودة.

يلفت المختصون الى أن المناهج التعليمية تتكون من سلسلة عناصر متكاملة ومترابطة، هي: الأهداف، المحتوى، وطرائق التدريس، والوسائل والأنشطة، والتقويم، ولكل من هذه العناصرمفرداتها ونتائجها ومخرجاتها، وبالتالي لكل منها أدوات تحقيقها ودورها في التشكيل الذهني والبدني لطلابنا، وهذا الأمر يقتضي أن تواكب جميعها في جزئياتها وكلياتها ما يفرضه التعليم العصري من تطورات ومستجدات، وما تفرضه التنشئة الوطنية والتوعية البيئية من التزامات ضرورية وملحّة.

لقد أصبحت إعادة النظر في مناهجنا حتمية لا بد منها للارتقاء بمجتمعاتنا، وفي هذا الصدد لا بد من التنبه الى التفاعل إيجابياً وعلمياً مع عدة مسلمات معاصرة، نذكر بعضها وفي مقدمتها تطورات الثورة التكنولوجية، والانفتاح الإعلامي والتواصل الثقافي وتسارع أساليب الحصول على المعلومة ونقلها، والميل لدى الأجيال المعاصرة للعلوم التطبيقية، والاعتماد المطرد على التخصصات الفرعية والدقيقة، وارتباط العلم والإنجاز بمستقبل الأوطان والحس الوطني، والدور المتنامي للوعي البيئي والصحي والتكوين النفسي للإنسان وتكريس منظومة الحقوق والحريات الأساسية في الوجدان البشري العام، واشتداد وتيرة المنافسة عالمياً على الصعد كافة، وضرورة مواكبة المتغيرات واستشراف المستقبل والمراجعة الدورية والمرنة.

***

عود على بدء، ومن حيث إن تراثنا العربي والإسلامي لا يخلو من إشعاعات حضارية وبصمات ثقافية وعلمية، ومن حيث إن ما نحن عليه الآن لا يشبه ما كان عليه أسلافنا في الأندلس وعصور النهضة، لا بد من التفكير مليّاً في عناصر مثل هذه النهضات المشرفة ومسببات تراجعها المقلقة.

وبمحاولة تبسيط للمسألة وربط بين خلاصة قصة «نيلز هنريك دافيد بور» من جهة وبين أسرار تفوق أي من الحضارات الشرقية أو الغربية، لا يخفى أن التقدم العلمي والازدهار الحضاري يرتكزان على عدة مقومات يأتي في مقدمتها اعتماد التفكير العلمي وتحفيز الحس الإبداعي، اضافة الى تقبّل وتحفيز المنهج النقدي وتطوير مهارات التخطيط والقياس والاستنباط والتقييم في مسار التصدي للمعضلات العلمية والمشاكل العملية.

وهذا ما ينطبق على منهج التعليم والتفكير في العصور الوسطى، ويبقى صالحاً في عصر العولمة والثورة الرقمية.

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top