شمال القوقاز والحرب الروسية في أوكرانيا

نشر في 28-10-2022
آخر تحديث 27-10-2022 | 20:51
رمضان قديروف
رمضان قديروف
يسهل أن تصبح منطقة شمال القوقاز أشبه ببرميل بارود مُعدّ للانفجار في أي لحظة، مما يؤدي إلى إطلاق سلسلة من التداعيات المتلاحقة في روسيا، لكن يبقى الوضع الميداني أكثر تعقيداً.
أدى الغزو الروسي لأوكرانيا هذا العام 2022 والتحديات التي يواجهها الجيش الروسي في هذا الصراع إلى إطلاق نقاشات حول مستقبل روسيا السياسي، والخلافة الرئاسية، ومخاطر انهيار الدولة الروسية واقتصاد البلد، فوفق عدد من السيناريوهات المطروحة، أصبحت منطقة شمال القوقاز ورمضان قديروف جزءاً من الأعباء المتزايدة على موسكو واستقرارها السياسي الداخلي، ومن الواضح أن الحرب في أوكرانيا غيّرت ديناميات السلطة في شمال القوقاز، فاستغل الزعيم الشيشاني هذه الحرب والقوات التابعة له وحتى أبناءه المراهقين، لإثبات ولائه المتزايد للكرملين، لكن بدأت كتائب شيشانية في أوكرانيا وفئات من الشتات، وعدد كبير من سكان شمال القوقاز، يصطفون ضد موسكو، مما يؤدي إلى توسّع المواجهات الاجتماعية والسياسية في المنطقة.

في أوساط الشتات القادم من شمال القوقاز، أدى الغزو الروسي إلى إطلاق موجة دعم واسعة لأوكرانيا، فأعلن الشيشان الذين عاشوا معاناة هائلة خلال الحربَين الشيشانيتَين دعمهم عبر المشاركة في تجمعات عامة في العواصم الأوروبية أو على مواقع التواصل الاجتماعي. برأي هذه الفئة من الناس، تُذكّرهم الأعمال الوحشية التي يرتكبها النظام الروسي بما حصل قبل عقدَين من الزمن في الشيشان، فأصبحت أوكرانيا جزءاً من سلسلة صراعات طويلة وعنيفة ضد الإمبريالية الروسية على مر عهد الاتحاد السوفياتي السابق، كذلك تحوّل الغزو الروسي إلى فرصة كي يُعبّر السياسيون الشيشان في المنفى وناشطون آخرون عن معارضتهم لروسيا أينما وُجِدوا، وكي يُجددوا التزامهم باستقلال الشيشان.

سافر أحمد زكاييف، وزير خارجية الشيشان السابق، وأنزور مشكادوف، ابن الرئيس الشيشاني السابق، إلى أوكرانيا لإثبات دعمهما للمقاومة الأوكرانية، واجتمعا مع مقاتلين شيشان، ونظّما شبكات شيشانية لدعم جهود الحرب، كذلك، اعتبر الممثلون الأوروبيون في حكومة جمهورية إتشكيريا الشيشانية الحرب المتواصلة معركة مشتركة ضد الإمبريالية الروسية، واعتُبِرت روسيا بعد الحقبة السوفياتية إمبراطورية انتقامية تهدف إلى إعادة بناء إمبراطوريتها الأوراسية على حساب الأقليات وحقها في تقرير مصيرها.

في الوقت الراهن، لا تزال التعبئة في أوساط الشتات من شمال القوقاز أصغر حجماً من تلك التي تزامنت مع الحرب في «دونباس»، بين العامين 2014 و2015، والحرب الأهلية في سورية، ويبدو أن هذه التعبئة المحدودة تبقى ظرفية بشكل عام، ولا تشير إلى غياب المشاعر المعادية لروسيا وسط الشتات في أوروبا، ففي عام 2014، عمد المسؤولون الأوكرانيون إلى تجنيد المتطوعين المستعدين لمحاربة روسيا علناً، وأنتج غياب الجيش الأوكراني والطبيعة الدفاعية لحرب «دونباس» ظروفاً مثالية كي يدعم المقاتلون الأجانب جهود الحرب. في المقام الأول، تبدو المعركة في عام 2022 أقرب إلى حرب استنزاف تقليدية، حيث تؤدي نيران المدفعيات وأنظمة التسلح المتقدمة دوراً طاغياً، ثانياً، ركّز المسؤولون الأوكرانيون على تعبئة شعبهم وحصروا التجنيد الخارجي بأفراد يتمتعون بخبرة عسكرية كافية للمشاركة في هذا النوع من الصراعات المعاصرة فوراً.

ثالثاً، زاد تركيز الشتات من شمال القوقاز في أوروبا على ضمان أمنه غداة النشاطات العسكرية في سورية وأوكرانيا، ولهذا السبب حاول عدد كبير من المتطوعين من شمال القوقاز أن يوضح الوضع القانوني لنشاطات المقاتلين الأجانب في أوكرانيا قبل الانضمام إلى المعركة ضد القوات الروسية.



أخيراً، أصدر «داعش» بياناً يعتبر فيه الحرب في أوكرانيا صراعاً بين الدول الغربية «الكافرة» (أو الصليبيين) وأدان المسلمين المشاركين فيها. كذلك، أعلن التنظيم الإرهابي أن الحرب في أوكرانيا قد تكون فرصة لضرب الغرب بدل القتال ضد روسيا، وقد يشير الصمت المحيط بالجماعات التابعة لـ«داعش» في أوكرانيا إلى اعتبار الاتحاد الأوروبي بديلاً أكثر أماناً من القتال أو البقاء في أوكرانيا.

لهذه الأسباب كلها، تُصَعّب الظروف الأوكرانية في عام 2022 حشد المتطوعين وتنظيمهم في أوكرانيا، رغم قوة المشاعر المعادية لروسيا وسط الشتات من شمال القوقاز، هذا الوضع أطلق نقاشاً عن تجدّد حركات التمرد في الشيشان وفي جنوب روسيا، فقد كانت كتيبة «الشيخ منصور» (وحدة شيشانية تقاتل في أوكرانيا منذ عام 2014) في طليعة الجماعات الناشطة، أعلنت هذه الجماعة أن وجودها في أوكرانيا لا يقتصر على محاربة الروس هناك، بل إن أهدافها تمتد إلى الشيشان أيضاً، وبرأي القوميين من إتشكيريا، يقدّم الدعم الغربي الفائق لأوكرانيا فرصة للمقاتلين كي يجددوا مطالباتهم القومية ضد روسيا، ومن خلال وضع نضالهم في إطار حركة واسعة لإنهاء استعمار الإمبراطورية الروسية، قد يتمكنون من استرجاع سيطرتهم على الشيشان، كذلك، جاء نجاح الهجوم المضاد الذي أطلقه خاركيف ليؤكد اقتراب روسيا من نقطة الانهيار.

قد يكون التوقيت مناسباً للتحرك، لكن تبقى الموارد المتاحة شحيحة، فمنذ عام 2016، تم استئصال حركة التمرد في شمال القوقاز بالكامل، بعد إطلاق حملة وحشية لمكافحة التمرد وتدفق المقاتلين إلى سورية، حيث تحصل اعتداءات المتمردين في معظمها على يد أفراد أو جماعات معزولة تفتقر إلى التنظيم المناسب، كذلك، يواجه المتمردون المتبقون في شمال القوقاز تحديات دائمة تمنعهم من متابعة أي نشاطات عسكرية طويلة الأمد ضد القوات الروسية. لا وجود لأي معابر نحو شمال القوقاز اليوم لنقل الأسلحة والمجندين، وقد تلاشى الدعم المحلي لحركة التمرد تزامناً مع توسّع الهجرة الجماعية إلى سورية وغرب أوروبا، وتنتج الظروف السياسية الراهنة في روسيا بيئة معرّضة للقمع، حيث يستطيع المسؤولون أن يكبحوا أي حركات تمرّد جديدة بسهولة مضاعفة، ويبدو تجدّد حركة التمرد في شمال القوقاز مستبعداً حتى الآن، لكن يجب ألا يغفل أحد عن تداعيات أي حرب مطوّلة في أوكرانيا في أفقر مناطق الاتحاد الروسي.

بدأت الحرب في أوكرانيا تؤجج استياء الشعب في شمال القوقاز وتزيد المشاكل التي تواجهها الحكومات المحلية والفدرالية هناك، فطوال سنوات، أرسلت منطقة شمال القوقاز كمية ثابتة من المجندين للانضمام إلى الجيش الروسي، حين كانت الخدمة العسكرية أداة للحراك الاجتماعي في منطقة يرتفع فيها مستوى البطالة. في تلك الظروف، سجّل العسكريون من شمال القوقاز، لا سيما من داغستان، حصيلة مرتفعة من القتلى مقارنةً بالمناطق التي تطغى عليها أغلبية روسية عرقية، فلا مفر من أن يؤجج هذا المستوى من الخسائر البشرية مشاعر البغض وسط السكان المحليين ضد الحكومة المركزية، حتى أنه قد ينشئ الظروف المناسبة لعودة نسبة كبيرة من المحاربين القدامى إلى شمال القوقاز، حيث يواجهون الصدمات النفسية، ويتعاملون مع ارتفاع مستوى البطالة، ويشعرون بالعار أمام الجماعات المحلية. في غضون ذلك قد تتوسع الاضطرابات الإقليمية بسبب غياب جهود إعادة الاندماج والفرص التي تفيد المحاربين القدامى، كما حصل خلال الحروب الأبخازية والشيشانية في التسعينيات.

يسهل أن تصبح منطقة شمال القوقاز أشبه ببرميل بارود مُعدّ للانفجار في أي لحظة، مما يؤدي إلى إطلاق سلسلة من التداعيات المتلاحقة في روسيا، لكن يبقى الوضع الميداني أكثر تعقيداً. تزامناً مع إبعاد لاعبين سياسيين أقوياء، من أمثال رمضان قديروف، عن المنطقة وتوسّع المشاكل والصراعات السياسية في كل مكان، لا تزال القوى الشعبية تفتقر إلى المعدات اللازمة للتصدي لسيطرة موسكو على شمال القوقاز، وفي ظل استمرار العقوبات الغربية وإقصاء روسيا من المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان، تستطيع موسكو أن تعالج أي مسائل عالقة في شمال القوقاز بأعلى درجات الإكراه.

من دون التزام واضح من اللاعبين الخارجيين، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تملك روسيا الأدوات المناسبة لمتابعة السيطرة على حدودها الجنوبية. لكن يسهل أن تتوسع الاضطرابات في أنحاء المنطقة بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا والتعبئة الحاصلة وسط الشتات والسكان المحليين. للاستفادة من تلك التعبئة ودعمها بالشكل المناسب، يجب أن يزيد الأفرقاء الغربيون الموارد المخصصة للدفاع عن حقوق الإنسان في المنطقة، والأهم من ذلك هو الامتناع عن تشويه سمعة سكان شمال القوقاز لمجرّد أنهم يحملون الجنسية الروسية. من خلال تحميلهم هذا النوع من المسؤولية الجماعية، قد يمتنع هؤلاء عن طلب اللجوء إلى الدول الغربية، حتى أنهم قد لا يشاركون بالكامل في التعبئة العامة ضد الدولة الروسية.

* جان فرانسوا راتيل

back to top