ناظم الغزالي... صوت العراق وسفير أغنيته «2-6»

• بداية الشهرة مع الثلاثي جميل بشير وناظم نعيم والجبوري

نشر في 24-03-2023
آخر تحديث 23-03-2023 | 18:01
صوت وحَّد العراقيين وصنع هوية مشتركة لأبناء الرافدين، وبين جهورية الصوت وحدته، وأغانٍ عاطفية في الحب بانكساراته وتجلياته، عكس صوته الشخصية العراقية المتناقضة. وصفوه بمحدّث الأغنية العراقية بل صوتها العاطفي. وبجرأة فارس عبر بما كان شبه مقدسات موسيقية إلى عصر آخر من الحداثة، فكان أنيقاً معبراً وملهماً لمن جاء بعده. حمل بقلبه وصوته الأغنية من بغداد إلى العالم كأجمل سفرائها بمقامات عشق لا تنتهي فأمتع كل سامع عربي تاركاً بصمته موسيقية يطرب لها كل جيل... إنه سيد المقامات العراقية الفنان ناظم الغزالي.

تسبب الفقر مجددا بعثرة أخرى أمام ناظم الغزالي رغم الموهبة الحقيقية التي امتلكها في أداء المقام العراقي ودخوله التمثيل على المسرح في محاولة للوصول إلى مبتغاه إلا أن الحياة لا ثبات فيها على حال، فوجود الأشخاص الداعمين كفيل بحصول كل تغيير فيها.

العودة إلى المعهد

في عام 1947 وبعد فترة من تركه الدراسة في «معهد الفنون الجميلة وانشغاله بالعمل الوظيفي بقي تفكيره منصبا على العودة إلى دراسة الموسيقى، ليعود الغزالي مجددا إلى معهد الفنون الجميلة متابعا الدراسة فيه، حيث دعمه للمرة الثانية عميد المسرح العراقي حقي الشبلي في العودة، متبنيا ناظم كفنان موهوب فضمه إلى فرقة الشبلي ضمن المسرح وقدما من خلالها أعمالا كثيرة حيث منحه أيضا ما كان يتمناه وهو أغان ضمن تلك المسرحيات.

اقرأ أيضا

ويتذكر الموسيقىر سالم الحسين دعوة الغزالي له لحضور إحدى المسرحيات والتي حملت عنوان «مجنون ليلى» للشاعر الكبير أحمد شوقي ومن جملة الأغاني التي تدرب عليها الغزالي آنذاك كانت أغنية «هلا هلا هيا.. نطوي الفلا طيًّا» من اختيارات الشبلي للفتى الموهوب حيث التقطتها الإذاعة العراقية حيث مهدت طريق ناظم إلى الشهرة والثبات في قلوب مستمعيه.

حضور غنائي قوي للغزالي في مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي

والجدير ذكره أن الغزالي غنى في المسرحية من دون مؤثرات صوتية مثيرا الانتباه الى موهبته الحقيقية في الغناء وليس التمثيل، أما الفرقة التي أسسها مع العديد من زملائه في المعهد فقد أطلقوا عليها اسم «الزبانية» مثلوا جميعا فيها وأصبحوا من المشاهير.

تركت دراسة التمثيل في معهد الفنون الجميلة في العراق بالغ الأثر في تكوين شخصية ناظم الغزالي المطرب، فقد اكتسب الفتى اليافع معرفة كبيرة باللغة كبناء صوتي وعروضي، وأداء سليما في نطق المفردة الشعرية وتوضيحها وتجنب إدغامها، إضافة لحضوره في مرحلة الطفولة جلسات المولد النبوي الشريف التي حصّل فيها الطفل كل أشكال المديح الذي زوده بقوة الشخصية للوصول إلى طرق للأداء والنغم ومختلف النصوص الشعرية.


فرقة الزبانية فرقة الزبانية

فرقة الموشحات

انتقل الشاب الطموح الغزالي بعد أن قدم أداء مبهرا مع فرقة الزبانية على المسرح التي لفتت انتباه الإذاعة والتلفزيون له وبعد انتهاء دراسته في معهد الفنون الجميلة، إلى “فرقة الموشحات” تحت إشراف الفنان السوري الموسيقىر الشيخ علي الدرويش تاركا التمثيل المسرحي متفرغا للغناء فقط، فلا طريق آخر مع الطرب ليصبح عضوا بارزا في فرقة الموشحات يقدم وصلات غنائية منفردة نحو ربع ساعة، متميزا في ذلك عن غيره من أعضاء الفرقة التي كانت علامة فارقة من علامات الغناء العراقي في عقدي الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.

أدار الفرقة وأشرف عليها إلى جانب الشيخ علي كل من «رضا علي ويحيى حمدي ومحمد عبد المحسن»، حيث كانوا ضمن الرعيل الأول للفنانين، فاستطاع ناظم أن يستفيد من الموشح الأندلسي كما تعلّم الأنغام العراقية والبستات القديمة، لذلك لاقى استحساناً عندما تقدم إلى اختبارالإذاعة والتلفزيون بين عامي 1947م و1948م.

تفرغ للغناء مع فرقة الموشحات بإدارة الموسيقار السوري علي الدرويش

الغناء في فلسطين

سافر الغزالي لأول مرة في حياته خارج العراق عام 1948 وكانت فلسطين أولى محطاته. حيث قدم عددا من الحفلات مع الوفد الفني بهدف دعم الجيش العراقي والجيوش العربية المتواجدة في فلسطين معنويا وشحذ هممهم في المرابطة هناك والترفيه عنهم. كما التقى بعبد السلام عارف الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للجمهورية العراقية. أُعجب الضابط عبدالسلام بصوت المطرب الشاب إعجابا كبيرا خاصة أنه كان من عشاق الفن وتحديدا فن المقام العراقي فارتبط عبدالسلام بصداقة وطيدة مع ناظم الذي أصبح بعد العودة من فلسطين من أصدقاء عارف، ومن أهم الأمور التي نتجت عن تلك الرحلة هي التعريف المتزايد بصوت عراقي جديد في أماكن جديدة.


جميل بشير جميل بشير

جميل بشير

عاد الغزالي إلى بغداد، وعمل على التعمق في أسس الثقافة الموسيقية فكان التلميذ المجد في دراسته تارة، وتارة أخرى المستمع الشغوف وهي طريقة كان يتبعها في تعلمه. وعرف عنه ولعه الشديد بأصوات كوكبة من كبار مطربي عصره أمثال «أم كلثوم وفريد الأطرش وليلى مراد ومحمد عبد الوهاب ونجاة علي وأسمهان وغيرهم من الكبار».

بعد فترة قصيرة التقى الغزالي بوديع خونده (سمير بغدادي) الذي لحن له أول أغنية “وين الكاه الراح مني» ولكنها لم تُقابل بما تستحق من النجاح، فعاد إلى المقام حتى التقى جميل بشير الذي أدرك قدرات الشاب الموسيقية وعرف ملامح ومساحة صوته فمنحه مفاتيح الشهرة الأكبر عبر تلحينه عددا من الأغاني، ففي عام 1955 لحن له أغنية «فوك النا خل فوك» وأغنية «وشبان مني ذنب»، لتبدأ شهرة الشاب اليافع تحلق إلى أمكنة عراقية لم يصلها مطربو المدينة من قبله، كما ذاع صيته في الأرياف والمدن االقريبة من البادية.

وجميل بشير ينتمي إلى عائلة موسيقية من الموصل، كان بيته أشبه بمعهد للموسيقى، وملاذاً لكل محبيها. والده يعرف كأمهر صانعي آلة العود، وعازفاً متميزا عليها. تعلّم جميل برفقة أخيه منير طريقة العزف الارتجالي على يد محيي الدين حيدر (وهو أمير من عرب الحجاز كان يسكن تركيا) فقام الأستاذ حيدر بتدريب التلميذين النجيبين. جميل المولود سنة 1921 طور عزفه على العود بتعلم العزف على آلة التشيللو كما تعلم قراءة المقام العراقي، وألمّ بفن أطوار غناء الجنوب بفراته الأوسط، مما تطلب منه تعلم العزف على آلة الكمان على يد الأستاذ ساندو البو.

ناظم يغني للجيوش العربية المرابطة في فلسطين

وضع بشير مؤلّفات عديدة على آلة العود أبرزها: بشرف سيكاه، وسماعي صبا، وكابريس، و»أندلس»، و»قيثارتي»، و»همسات»، و»لونغا فراق»، و»ملاعب النغم»، و»تأمل وحيرة»، و»رقصة جمانا»، و»أيام صعبة»، و»أيام زمان»، و»صدفة»، و»شارع الخليج».

تأثر بتقاسيم جميل بشير كثيرون إذ كان ملهما لهم وله في ذلك أعمال بارزة كتقاسيم البيات التي صاحبت مطربين كثر، مثل القبنجي، وزهور حسين، وناظم الغزالي. وله فضل كبير أيضا على العازفين المشهورين على آلة الكمان، من أبرزهم الفنان فالح حسن. نُشر كتابه «تعلُّم العود» عام 1961 وفيه يتطرّق إلى طريقة العزف على آلة العود على النوتة الموسيقية. جميل بن بشير بن عزيز بن جرجيس المولود في مدينة الموصل في العراق سنة 1921 توفي سنة 1977 في لندن عن عمر ناهز ستة وخمسين عاما.

ناظم نعيم

يعتبر المطرب ناظم الغزالي، إضافة للملحنين العملاقين جميل بشير وناظم نعيم الذي عمل في دار الإذاعة العراقية عام 1943 كعازف للكمان ومعهم الشاعر العراقي الكبير جبوري النجار، من رواد المساهمين بشكل فعال في تطوير التراث اللحني البغدادي كما عدوا أصحاب المدرسة العراقية الحديثة.

كون الغزالي معهم مجموعة فنية مميزة أخرجت للذوق العام أجمل أغانيه، أما عن اللقاء الذي جمع ناظم بنعيم فكان في فرقة الموشحات الأندلسية التي كان يشرف عليها الشيخ علي درويش والموسيقار روحي الخماش. وعن الغزالي يقول الملحن نعيم: «لقد وجدت في توجه ناظم الغزالي ميلا شديدا إلى تأدية المقام العراقي عندما سمعته يؤدي لأول مرة مقام الحويزاوي بطريقة فيها الكثير من الحداثة في الأداء فأعجبت به وبصوته وقررت أن يكون بيننا تعاون في الألحان لتأتي أغاني المطرب ناظم الغزالي مزيجا من الحداثة والتراث والمعاصرة بين الآلة الغربية والشرقية.

اللقاء مع الملحن جميل بشير بداية لشهرة ناظم الحقيقية

وشكلت خبرة الموسيقار الكبير جميل بشير في التوزيع الموسيقي تزيينا رائعا لألحان نعيم بأحدث توزيع موسيقي مشبعة بالتراث البغدادي والحداثة وانتقاء المفردة السهلة والمعبرة والبعيدة عن المصطلحات البغدادية والقريبة للمفهوم العربي العام أو ما يعرف باللغة البيضاء التي أبدع في أسلوب كتابتها الشاعرالكبير جبوري النجار.

ومن روائع الأغنيات التي قدمها الثلاثي لناظم “طالعة من بيت أبوها” و”ما أريده الغلوبي” و”أحبك وأحب كل من يحبك “و”فوك النا خل” و”يم العيون السود مروا علي الحلوين” وجميع أغاني الغزالي والتي يرجع فضل انتشارها إلى خروجه عن الأصول التقليدية المتبعة آنذاك في طريقة الأداء والغناء وحتى الموسيقى. عاش ناظم نعيم في بغداد بعد نجاحه الباهر مع أصدقائه الغزالي وجميل بشير ونيلهم شهرة وانتشاراً واسعاً في العراق بعدما عانوا الكثير من المعارضة والتشهير من قبل مطربي المقام وغيرهم من النظام القديم.


علي الدرويش علي الدرويش

علي الدرويش وأثره في حياة الغزالي

علم من أعلام الموسيقى في سورية حلبي المنشأ ولد في حي «المزوّق» الواقع حول قلعة حلب عام 1884، عاش في عائلة ميسورة الحال لأب يعمل في تجارة الأقمشة ويرافقه إلى حلقات الذكر. حفظ القرآن الكريم عند الكتاب وتعلم القراءة والكتابة والحساب. كما تعلم العزف على آلة الناي على يد «عبده زرزور» عازف الناي في التكية المولوية، أما «مهران السلانيكي» الموسيقي الأرمني فقد درّسه القراءة والتدوين الموسيقي وبعض النظريات الموسيقية الأوروبية كعلم الهارموني وسواه.

حفظ عن الشيخ «صالح الجذبة» الموشحات والتواشيح وأناشيد الذكر وعلوم الإيقاع والمقام، ومن الشيخ «أحمد عقيل» أخذ تراث «حلب» واستفاد منه في علوم المقام والإيقاع وخصوصاً فيما يتعلق برقص السماح.

دون ما تركه المسرحي الكبير أبو خليل القباني من موسيقى في مسرحياته وعرض لمقاماتها ولإيقاعاتها شرحاً وتوضيحاً. سافر لتعلم الموسيقى ونقلِ خبرته إلى عدد من البلدان كمصر وتونس وفلسطين. في عام 1945 تلقى دعوة من «الشريف محيي الدين» ليكون من ضمن مدرّسي معهد الفنون الجميلة ببغداد حيث قضى فيها ست سنوات ثم عاد إلى حلب وعين مدرّساً في المعهد الموسيقي الشرقي ومستشاراً لمدير الإذاعة الجديدة ورئيسا للجنة الاستماع في القسم الموسيقي فيها وسجل في الإذاعة بعضاً من أعماله الآلية والغنائية وموشحين سجلهما الأستاذ «صباح فخري» وهما «يا ساكنا بفؤادي» و»آه من نار جفاهم».

ناظم نعيم لحن للغزالي أشهر أغانيه التي كتبها الشاعر جبوري النجار

من أبرز مؤلفات الشيخ علي (كتاب النظريات الحقيقية في القراءة الموسيقية) بدأه عام 1925 وفرغ من تأليفه في عام 1943 وما زال حبيس الأدراج، وله بحث في السلم الموسيقي العربي قارن بينه وبين السلم الفيثاغورثي والسلم الغربي المعدّل القائم على مبدأ أنصاف الصوت. توفي عام 1952 بعد صراع مع المرض وتم إطلاق اسمه على أحد شوارع مدينة حلب.

ناظم الغزالي تعودَ لبس السرج ووضعَ وردة في جيب سترته

يتمتع أي فنان عن سواه بصفات تتميز بها شخصيته، وخير من يتحدث عنها من لازمه فترة من الزمن. وعن شخصية الغزالي يقول صديقه الموسيقار سالم الحسين: “ناظم حتى وهو فقير يلبس ملابس عادية كانت تبدو تلك الملابس أنيقة جدا عليه. رأيته مرات عدة يلبس حذاء باللونين الأبيض والأسود والبنطال الذي كنا نسميه وقتها بـ (السرج). ناظم كان يترك دائما في جيب سترته وردة ويهتم بمظهره كثيرا، يحلق ذقنه ويدهن شعره، وبذلك تستطيع أن تميزه مباشرة من بين مئات الناس شابا وسيما ذا مظهر جميل يعتني جدا بهندامه”.

أما الباحث الموسيقي صلاح عمو فيقول: “اهتم ناظم كثيرا بأسلوب تعامله مع الناس خصوصا الموسيقيين الذين عمل معهم الذين تحدثوا دائما عن مدى اهتمامه بظهوره على المسرح، وحركاته، وتعابيره، وملامح وجهه، وكيف كان يعبر بتلك الملامح على المسرح فهو في النهاية خريج معهد مسرحي، فقد اشتغل على أدق التفاصيل كحركات العينين والحواجب والتنفس واللفظ باهتمام بالغ.

ضياع أغانٍ كثيرة للغزالي أيام البث المباشر

في الفترة التي عمل فيها الغزالي موظفا كان له زملاء في العمل من المهتمين بالموسيقى وموسيقيين فعليين حيث يقول صديقه الشاعر حسن نعمة العبيدي عن المرحلة تلك: “عايشت ناظم الغزالي موظفاً بدائرة البريد وشاءت الظروف أن يكون عملي بجوار عمله وكنت أراه دائماً وسيم الطلعة ممتلئاً بالحيوية والنشاط، ومع عمله الروتيني إلا أنه لم ينقطع عن الغناء، فقد عرفته مطربا متميزاً بصوته الجميل أيام كان البث الإذاعي مباشراً وعلى الهواء، مما جعل أكثر أغانيه تضيع لأنها لم تسجل”.

ويضيف العبيدي: “شاركته ببرنامج الترفيه عن الجيش العراقي في عام 1947، وقد كلفني أن أكتب له نصاً غنائياً فتملكني شعور من البهجة والسرور، ذلك أنني كنت أعرف مدى مكانته في سمو الاختيار وحسه الأدبي الشفاف إذ لا يقبل الأبيات إلا بعد مطالعتها بجدية الممارس، وكم فرحت عندما وافق على نصي مع تعديل بسيط قام به».

back to top